صنعاء 19C امطار خفيفة

التنوير "الإنوار" ومعوقات تحققه في الوطن العربي

الإهداء إلى: مشرفي وأعضاء مجموعة منبر التنوير الواتسابية، أهديكم هذا المقال المتواضع الذي يحمل في طياته أفكارًا ورؤى حول مفهوم التنوير. إن التنوير ليس مجرد فكرة، بل هو دعوة للتفكير النقدي والانفتاح على العلوم والثقافات المختلفة. وأتمنى أن يسهم هذا المقال في إثراء نقاشاتنا، وأن يكون حافزًا لمزيد من البحث والاستكشاف.

 

التنوير:

 
«التنوير» مصطلح يحمل معاني عديدة، من بينها: «العصرنة»، بما تعنيه من وعي بمعطيات الزمان والمكان والأداء في ضوئها، و«اتساع الأفق» لقبول الغير والاستماع إلى الأفكار ووجهات النظر المغايرة، و«العقلنة»، بما تعنيه من احتكام للعقل ولنظريات العلم عند النظر في قضايا الواقع أو أحداث التاريخ، بما يؤدي إلى فهم أرقى للواقع والتاريخ.
 
ومما سبق فإن "التنوير" حركة فكرية وثقافية نشأت في أوروبا في القرن الثامن عشر. تهدف هذه الحركة إلى تحرير العقل من القيود التقليدية والخرافات، ودفع الإنسان نحو استخدام العقل والتفكير النقدي لفهم العالم وتفسيره. اعتمدت حركة التنوير على العقلانية والعلم كأساسين لمعرفة الحقيقة، وانتقدت سلطة الكنيسة والدولة في السيطرة على الفكر.
من بين أبرز المفكرين البارزين في حركة التنوير، يمكننا ذكر فولتير، جان جاك روسو، وإيمانويل كانط.
 
ويقوم التنوير على عدة مبادئ رئيسية، منها:
1- العقلانية: يعتبر العقل أداة أساسية لفهم العالم وحل مشكلاته، مع التركيز على التفكير النقدي والتجريبي.
2- الفردية: يشدد التنوير على أهمية الفرد وحقوقه، مؤكدًا على حرية التفكير والتعبير.
3- الحرية: تعتبر الحرية شرطًا أساسيًا للتقدم، سواء كانت حرية الفكر أو الدين أو التعبير.
4- التقدم: الإيمان بأن البشر يمكنهم تحسين حياتهم ومجتمعاتهم من خلال العلم والتعليم والتغيير الاجتماعي.
5- العلم والتجربة: الاعتماد على المنهج العلمي والتجربة كأساس لاكتساب المعرفة.
تحقيق التنوير يتطلب اتباع عدة سبل أساسية، منها:
- التعليم والتعلم المستمر: توسيع المعرفة من خلال الدراسة والبحث.
- التفكير النقدي والتحليلي: تقييم المعلومات بموضوعية.
- الاستقلالية في الفكر: تطوير القدرة على التفكير المستقل.
- الانفتاح على ثقافات وأفكار مختلفة: استكشاف وجهات نظر متنوعة.
- تعزيز الحوار والنقاش البناء: تبادل الأفكار مع الآخرين.
- التأمل الذاتي: فهم النفس والبحث في القيم والمعتقدات الشخصية.
 

انعكاسات غياب التنوير

 
غياب التنوير في أي مجتمع يؤدي إلى عدة انعكاسات سلبية، منها:
- انتشار الجهل والخرافات: يؤدي إلى انتشار الأفكار غير العلمية.
- ضعف الحريات الفردية: يمكن أن تزداد القيود على الحريات الشخصية.
- التخلف الاقتصادي والاجتماعي: تتخلف المجتمعات عن الركب في مجالات التنمية.
 

لماذا لا يتحقق التنوير في الوطن العربي؟

 
تتعدد الأسباب التي تعوق تحقيق التنوير في الوطن العربي، ومن أبرزها:
- القيود السياسية: الأنظمة السياسية الاستبدادية قد تعوق حرية التعبير والتفكير.
- التقاليد والعادات: بعض التقاليد قد تعوق الانفتاح الفكري.
- نقص التعليم الجيد: ضعف نظام التعليم يعوق التفكير النقدي.
- التأثيرات الخارجية: الضغوط السياسية والاقتصادية قد تؤثر سلبًا على الفكر المستنير. فإذن فإن التنوير يمثل أساسًا مهمًا لتقدم أي مجتمع. تحقيقه يتطلب جهودًا متكاملة في التعليم، الفكر النقدي، والانفتاح على الأفكار الجديدة.
- تزايد الصراعات وغياب التنوير: إن غياب الفكر التنويري في المجتمع قد يؤدي إلى تزايد الصراعات الاجتماعية والسياسية. عندما يغيب الحوار العقلاني والنقد البناء، تصبح عملية حل النزاعات أكثر تعقيدًا وصعوبة، مما يسهم في تفاقم المشكلات.
وتشمل عوائق التنوير في الوطن العربي عدة عوامل متداخلة، منها:
1- الهيمنة الاستعمارية والتدخلات الخارجية: أسهم الاستعمار الأوروبي في تعطيل مسار التنوير عبر إبقاء المجتمعات العربية في حالة جهل وتخلف، مما يسهل السيطرة عليها.
2- الأنظمة السياسية المستبدة: غالبًا ما كانت الأنظمة السلطوية في العالم العربي معادية لأية حركة تنويرية تعزز حقوق الإنسان والحريات الفردية، مما أدى إلى قمعها بشدة.
3- الثقافة التقليدية المحافظة: انتشار الثقافة التقليدية والدينية يعتبر الأفكار التنويرية تهديدًا للموروث الثقافي، مما يعوق تطور الفكر النقدي.
4- ضعف الأنظمة التعليمية: يعاني التعليم في العديد من الدول العربية من مشاكل، مثل المناهج التي تفتقر إلى تعزيز الفكر النقدي والتحليل المستقل، مما يؤدي إلى غياب الوعي التنويري.
5- التحديات الاقتصادية والاجتماعية: الفقر والبطالة وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي يجعل الشعوب تركز على القضايا اليومية، مما يعوق التفكير في القضايا التنويرية العميقة.
6- الصراع الهوياتي: هناك توتر بين تبني القيم التنويرية المستوردة من الغرب والحفاظ على الهوية العربية والإسلامية، مما يعقد عملية التقدم.
7- ضعف المجتمع المدني: ضعف المؤسسات المدنية والثقافية في العديد من الدول العربية يحد من الفضاء العام الذي يمكن أن تنمو فيه الأفكار التنويرية.
8- الإرهاب والتطرف: انتشار الجماعات المتطرفة التي ترفض كل ما هو جديد، وتستخدم العنف لقمع الأصوات التنويرية.
 

دور المثقف

 
ليست وظيفة المثقف مسايرة القطيع والمصادقة على خزعبلاته وخرافاته، بل وظيفة المثقف هي صدم القطيع وإخراجه من أساطيره وأضاليله. يتطلب الأمر شجاعة لنقد الموروثات والتقاليد التي تعوق التقدم، ودعوة المجتمع لفكر نقدي وموضوعي يسهم في تحقيق التنوير. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكننا التوفيق بين القيم التنويرية والهوية العربية الإسلامية؟ وإجابة على هذا السؤال فإنه يمكن أن يكون التوفيق بين القيم التنويرية والهوية العربية الإسلامية عملية معقدة، لكنها ممكنة من خلال عدة مسارات:
 

1- إعادة تفسير التراث:

 
- يمكن للمفكرين والمثقفين إعادة تفسير النصوص الدينية والتاريخية بما يتماشى مع مبادئ العقلانية والتفكير النقدي. هذا يسهم في دمج القيم التنويرية مع الهوية الثقافية والدينية.
 

2- التأكيد على القيم المشتركة:

 
- هناك قيم تنويرية تتماشى مع المبادئ الإسلامية، مثل العدالة، والحرية، وحقوق الإنسان. يمكن التركيز على هذه القيم كأساس للتوافق بين التنوير والهوية.
يمكننا تعزيز التعليم النقدي من خلال الآتي:
- تطوير نظم تعليمية تعزز التفكير النقدي والتجريبي، مما يساعد الأجيال الجديدة على فهم القيم التنويرية في سياق ثقافي وديني يتناسب مع هويتهم.
 

3- الانفتاح على الآتي:

 
- فتح قنوات الحوار بين مختلف التيارات الفكرية والدينية يسهم في بناء فهم مشترك، ويخفف من التوترات الناتجة عن الاختلافات.
 

4- النظر في التجارب التاريخية:

 
- استلهام التجارب التاريخية التي شهدت تفاعلًا إيجابيًا بين الفكر التنويري والإسلام، مثل العصور الذهبية في الحضارة الإسلامية، يمكن أن يكون مصدر إلهام.
 

5- استيعاب التغيرات المعاصرة:

 
- التكيف مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة دون التخلي عن الهوية الثقافية، مع التركيز على التفاعل الإيجابي مع القيم (التأكيد على التنوع).
- الاعتراف بالتنوع داخل الهوية العربية الإسلامية والاحتفاء به، مما يسهم في خلق بيئة أكثر تقبلًا للأفكار التنويرية.
ويمكن تحقيق التوافق بين القيم التنويرية والهوية العربية الإسلامية من خلال حوار مفتوح وإعادة تفسير للموروث الثقافي والديني، مما يمكّن المجتمعات من الاستفادة من القيم التنويرية في سياق يحافظ على هويتها.
 

 أمثلة تاريخية على التفاعل الإيجابي بين التنوير والإسلام

 
1- العصر الذهبي الإسلامي (القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر):
- شهدت هذه الفترة ازدهارًا في العلوم والفلسفة، حيث أسهم علماء مثل ابن سينا وابن رشد في تطوير الفكر الفلسفي والعلمي. ابن رشد، على سبيل المثال، قام بتفسير فلسفة أرسطو ودمجها مع الفكر الإسلامي.
 

الفلاسفة العرب

 
- ابن رشد: اعتبر من أهم الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين العقل والدين. كتب العديد من الأعمال التي تدعو إلى استخدام العقل في فهم النصوص الدينية.
- حجة الإسلام الغزالي: رغم أنه كان عالمًا دينيًا، إلا أنه أيضًا كتب عن الفلسفة، وناقش دور العقل في فهم الإيمان.
 

2- الحركة النهضوية في القرن التاسع عشر:

- مع بداية النهضة العربية، بدأ المفكرون مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، في دعوة إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي والتعليم. كانوا يسعون إلى الجمع بين القيم الحديثة مثل حقوق المرأة والعقلانية مع الهوية الثقافية والدينية.
 

3- تفاعل الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي:

- في القرنين التاسع عشر والعشرين، تأثرت بعض الحركات الفكرية الإسلامية بالفكر الغربي التنويري. مثلًا، حاولت بعض الشخصيات مثل طه حسين وعلي عبدالرازق، استخدام الفكر النقدي لتحليل التراث الإسلامي والمجتمع.
 

4- إصلاحات محمد علي في مصر:

- في أوائل القرن التاسع عشر، قام محمد علي باشا بإدخال إصلاحات تعليمية وصناعية، مما أتاح الفرصة لاستيعاب الأفكار الحديثة والعمل على تطوير المجتمع بما يتماشى مع الهوية الإسلامية.
 

للأدب وللشعر دور

 
- أدباء وشعراء مثل ايليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، استخدموا الأدب للتعبير عن التفاعل بين القيم التنويرية والهوية الإسلامية، مع التركيز على القضايا الاجتماعية والسياسية.
وختامًا، فإن هذه الأمثلة تظهر كيف أن التفاعل بين التنوير والإسلام كان موجودًا في تاريخ الفكر العربي، مما أسهم في تطوير المعرفة والفهم النقدي، وفتح آفاق جديدة للتفكير والإصلاح.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً