صنعاء 19C امطار خفيفة

المقاومة الفلسطينية.. بين البطولة والنقد الخائن (١ ـ ٣)

سقط القناع..

عرب أطاعوا رومهم..

عرب وباعوا روحهم..

عرب.. وضاعوا

سقط القناع عن القناع

سقط القناعُ...

 
محمود درويش
 
من أوائل ستينيات وسبعينيات القرن الماضي -يمكن قبلها- بدأت تطل علينا كتابات ودراسات معمقة حول الأسطورة والبطل والبطولة، وعلاقة البطل بالواقع وبالأسطورة، في التاريخ وفي التراث، انتقلت بعدها للدراسات النقدية الأدبية، وإلى الشعر والرواية، حول البطل في الرواية، ومع أوائل الثمانينيات -ويمكن قبلها- ظهرت وانتشرت كتابات تتناول هذه المفاهيم والقضايا من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس التحليلي، وغيرها من مباحث علم النفس، وقدمت بحوثًا ومشاريع أبحاث/ كتب، حول ظاهرة البطل وعن الأسطورة من وجهة نظر علم النفس، وأصدر المفكر الأستاذ علي زيعور مع بداية العام 81-1982م، مشروعه النظري الفكري في التحليل النفسي حول: "البطولة والنرجسية في الذات العربية"، دراسات ومشاريع أبحاث تبحث بصورة علمية نقدية عقلانية وواقعية منهجية حالة وظاهرة البطل والأسطورة وعلاقتها بالذات العربية، وهناك كتب عربية وأجنبية عديدة في هذا الاتجاه، نذكر منها: "فلسفة الأسطورة" لـ"أليكسي لوسيف"، ومن اطلاعاتي هناك كتابات عديدة حول "البطل في الرواية" وفي السياسة التحررية المقاومة، وأصدر سيد القمني كتابه الفكري/ السوسيولوجي التاريخي التراثي عن وحول "الأسطورة والتراث"، والحديث يطول حول هذا المعنى، وليس مكانه هذا المقام. وجميعهم من خلفيات معرفية وفكرية وسياسية واجتماعية مختلفة، كانوا يحاولون كشف واكتشاف ما هو أعمق للصلة بين البطل والأسطورة في الواقع، وفي تاريخ الشعوب، دراسات ومباحث معرفية فكرية منهجية تقف خلفها قيم معرفية فكرية، وقبل ذلك مسؤولية أخلاقية وأدبية تحرص على عقل القارئ معافى، وعلى تنمية وعيه وفكره الاجتماعي والثقافي والسياسي والإنساني، باتجاه حركة التقدم الاجتماعي التاريخي، حتى يكون للنقد قيمة ومعنى معرفي وتعليمي وتربوي وإنساني، من خلال "النقد المركب" و"النقد المزدوج"، حسب تعبير المفكر الاجتماعي والإنساني، د. عبدالكبير الخطيبي، الذي ابتدع مفهوم "النقد المزدوج"، ليوسع فضاء مساحة الرؤية لمفهوم ومعنى النقد، وله كتاب تحت هذا العنوان.
 
نقرأ من خلال جميع تلك النماذج التي ماتزال الذاكرة تحتفظ بها، أو ببعضها، معنى النقد كمسؤولية معرفية وأخلاقية وأدبية، ودور النقد في تنمية المعرفة، والفكر والإنسان معًا، من خلال نقد الذات، ونقد الآخر، ونقد الواقع في تفاصيله ومعطياته كما هو، ضمن رؤية كلية إبداعية نقدية شمولية، وليس على حساب مصادرة الحقائق والوقائع كحالنا مع البعض من الكتاب، الذين يستلون النص/ النصوص، العبارات والكلمات والمفاهيم من متونها ليختزلوها في أسطر وعبارات يعلقونها على مشنقة نقدهم الأيديولوجي والسياسي الخاص بهم، وضمن مشاريعهم السياسية وكله باسم النقد، حيث نجدهم ينتزعون الأفكار والعبارات والمفاهيم بعد فصلها عن سياقها الذاتي والموضوعي والتاريخي، حول الأسطورة والبطل والنرجسية، ومفهوم القطيع كما هو عند غوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير" أو عند المفكر السوسيولوجي، مصطفى حجازي، في كتابه "التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، وتلكم هي مشكلتنا مع بعض الكتابات التي تحاول أن تقول من خلال هذه الجمل والعبارات والمفاهيم الانتقائية المفصلة على مقاسهم الأيديولوجي/ الذاتي، والمفصولة عن سياقها المعرفي والفكري، والموضوعي/ التاريخي ليقولوا من خلالها كل شيء، وهم حقيقة لا يقولون شيئًا له معنى وعلى صلة بالنقد، أو ما يفيد على مستوى تنمية المعرفة والفكر، وترقية الذوق الإنساني، لأن القصدية السياسية والأيديولوجية الفجة الخاصة بهم هي كل همهم، لأنهم ينطلقون من عقلية تصفية حساب مع مشاريع وأفكار وقضايا، من خلال "دوجما"، مسبقة، باسم الحرية الفكرية المفتوحة التي تروج له الآلية الأيديولوجية والسياسية والإعلامية الغريبة الاستعمارية، التي ينحصر كل شغلها ليس في نقد مقاومة حركات التحرر العالمية، بل والعمل الحثيث والدؤوب للحرب عليها وتصفيتها، كتابات همها كله مختزل في توظيف الأبعاد المعرفية المختلفة بعد إدماجها في طاحونة الأيديولوجية الرأسمالية في طابعها الصناعي العسكري، الذي يخدم رأس المال المالي، أي المجمع الصناعي العسكري، والمالي، الذي يقف اليوم بوضوح، وعلنًا في وجه كل حركات التحرر الوطني العالمية، بما فيها حركة المقاومة الفلسطينية، وتشتغل معها جوقة واسعة من الإعلام العربي المتصهين، ومن الكتبة الملحقين بهم، وهو طابور إعلامي كبير يشتغل موظِّفًا كل المعطيات المعرفية والفكرية والإعلامية والخبرية، والنفسية لتدمير روحية الإنسان المقاوم، وإضعاف حضور، فكرة المقاومة في الواقع؛ واستبدالها باسم "السلام"، الذي يعني في السياق الصهيو/أمريكي، الاستسلام للمشروع الاستيطاني الاستعماري الغربي الذي يحرسه الكيان الصهيوني، وما يحصل في الأرض الفلسطينية/ غزة من "حرب إبادة جماعية"، في طريقها للانتقال إلى لبنان المقاوم، يقول هذا المعنى بوضوح، متوسلين خطابًا ثقافيًا شبه ناعم باسم الحرص على حقن الدم الفلسطيني الذي حسب زعمهم تتحمل مسؤولية سفكه المقاومة "المغامرة"، في كل مكان في العالم وفي القلب منها فلسطين، المقاومة من أجل الحرية وتقرير المصير، الذي يرفض ولا يقبل المشروع الصهيو/أمريكي، في مواجهته بأقل من "حرب الإبادة"، على طريق التطهير العرقي والتهجير القسري، والجرائم/ المجازر متعددة الاسماء التي ترتكب في كل لحظة وساعة، في ظل صمت دولي، وعربي مشارك في استمرار جرائم حرب الإبادة، وفي مناخ الدم والنار، والخراب الذي يذكرنا بجحيم القيامة، الذي يصنعه الاحتلال والغرب الاستعماري، على الأرض الفلسطينية، هناك من يتقدم لنا بخطاب كلامي إنشائي فارغ من المعنى، عن وحول قضية فلسطين ومقاومته، خطابًا يتباكى بدموع التماسيح على الدم المسفوح، والأرض المحروقة والمنهوبة، ومستوطنات لا يتوقف عن بنائها الصهيوني، ولا تراها العين الناقدة للمقاومة، وكله باسم الدفاع عن فلسطين من مقاومة عبثية مجنونة مغامرة تسببت بكل هذه الإبادة الجماعية، لأنها من أطلقت شراره السابع من أكتوبر 2023م، خطابًا مراوغًا واستسلاميًا تجاوز حد الخيبة حتى يمكننا تسميته بالنقد الخائن، لأنه يتكامل ويتوحد مع النقد الصادر عن الإعلام الصهيو/أمريكي، نقد هدفه فقط إدانة معنى المقاومة بحد ذاتها كفكرة ومعنى، بعد تحميلهم المقاومة سبب كل الخراب والدمار في الأرض الفلسطينية واللبنانية، فكل تاريخ حركات التحرر العربية عندهم هي نكبات، ونكسات وانكسارات متواصلة ما كان لها أن تكون لولا جنون فكرة المقاومة المغامرة، التي لم تدرس حسابات الحقل العسكري الصهيوني الأمريكي بحسابات القوة المعدومة لديهم، أي لدى المقاومة، وهو نموذج لخطاب انهزامي يحمل عدته الكلامية الإنشائية ليروج أن لا طريق لحل القضية الفلسطينية سوى "السلام"، عبر التسويات التفاوضية التي يرضى بها المحتل، بل يقدمها المحتل، والصورة تحكي عن نفسها أمامكم في صورة ما يجري بوضوح على شاشات التلفزة العالمية. ذلك أن إيقاف حرب الإبادة مرهون بالاستسلام الكامل ورفع الراية البيضاء، والذي يعني استكمال الاحتلال لما تبقى من الأرض وفق مشاريع الخرائط العلنية التي قدمها نتنياهو أمام العالم ومن على منصة الأمم المتحدة، واليمين الصهيو/أمريكي في إسرائيل واللوبي الصهيوني في أمريكا لا يتوقف إعلان خطابه في هذا الاتجاه.
خطابات شعاراتية من موقف كاره للمقاومة الفلسطينية، ليست أكثر من عبارات وتعبيرات تقول كل شيء، وعن كل شيء، إلا عن الحق الفلسطيني والعربي، الذي لا طريق ولا خيار أمامنا للوصول إليه سوى السلام، عبر الترجمة باللغة العبرية الصهيو/أمريكية.
 
نقد خائن لروح فكرة النقد، مترجم من العبرية الاستيطانية، إلى اللغة الانجليزية الوظيفية الاستعمارية، بعد إخراجها في صورة عربية خائنة لروح معنى النقد، وللدور القومي والإنساني للغة العربية وللفكر.
نحن أمام خطاب إنشائي كلامي مغطى بقشرة خارجية من الموضوعية الزائفة، خطاب مهمته الجوهرية نشر ثقافة الهزيمة باسم الدفاع عن الحق الفلسطيني، دفاع عن الشعب الفلسطيني من مقاومته الدينية "التكفيرية"، ولا حديث عن الاحتلال وجرائمه ومجازره، لأنه خطاب قد حسم أمر خياره بأن المقاومة المغامرة هي من سببت كل هذا الخراب والدمار، بما فيه "حرب الإبادة"، هذا ما يقوله خطابهم ليس ضمنًا بل صراحة، وإن تم تغطيتها بسلوفان الدم الحار النازف من القلب الفلسطيني، وثمنه بيع القضية الفلسطينية بالمجان، عبر ما سُمِّيت "صفقة القرن"، وعند هذه اللحظة يلتقي ويتوحد الخطاب الصهيو/أمريكي الاستعماري، مع خطاب الإعلام العربي المتصهين، ومعهم ملحقهم من الكتبة الذين بكتاباتهم تستكمل حلقات محاولة تصفية القضية الفلسطينية من خلال تشويه وتدمير معنى المقاومة كفكرة وقضية، حتى لا يبقى للقضية الفلسطينية في الواقع أي معنى يدل عليها، سوى أنها جريمة بحق الشعب الفلسطيني!
ومن هنا حديثهم المجرد والعمومي والإطلاقي عن عقل عربي مهزوم، ومجتمعات عربية مريضة نفسيًا، كلام إنشائي مجرد من أي معنى معرفي وفكري وثقافي تاريخي، يفتقر لأدنى صدقية وواقعية، خطاب مفصول عن الحقائق والوقائع كما هي، ومفصل على مقاس أيديولوجيتهم السياسية الخاصة، ولذلك يلجأ البعض لشعارات أيديولوجية مغطاة بكلمات ناعمة عن السلام، بدون رؤية، وعن التفاوض، بدون محددات، وعن الحق الفلسطيني، على أن يكون ذلك بعيدًا عن المقاومة المجنونة والعبثية والمغامرة، مع أن أي درس وبحث أولي بسيط جدي وممرحل حول تجربة التفاوض التي قبل بها الرئيس عرفات مع الكيان الصهيوني منذ "أوسلو"، قادته إلى حصاره وتجويعه في مقر إقامته حتى قتله مسمومًا، عملية تفاوض هي إلى الحرب أقرب، ولا صلة لها بمعنى التفاوض الندي، تجربة تفاوض توسع معها الاستيطان والمستوطنات التي نهبت بقوة الحديد والنار، حتى لم يتبقَّ من الأرض الفلسطينية شيءٌ له معنى.
 
تفارض لا يستطيع معه رئيس السلطة الفلسطينية التحرك من منزله إلى مكان آخر إلا بأمر من الأمن الصهيوني، بعد أن صارت الضفة الغريبة سجنًا كبيرًا أمام حركة الفلسطينيين، مقطعة الأوصال، ومع ذلك لم يقبل الكيان الصهيوني إلا بكل الأرض مقابل لا شيء حقيقي على الأرض، بعد رفض الكيان الصهيوني "المبادرة العربية" التي قدمها الملك عبدالله، وهي الحد الأدنى من السقف السياسي التفاوضي، والتي تقول "الأرض مقابل السلام"، طارحين وفارضين أن شرط بقاء الفلسطيني حيًا هو مقابل كل الأرض، هذا ما يعلنه نتنياهو وكل الشعب/ الجيش الصهيوني، وبعد كل ذلك يأتي البعض من الكتبة ليعلم الفلسطينيين أن التفاوض هو الخيار الأمثل والأسلم إن لم يكن الوحيد للوصول للحق الفلسطيني!
نحن إذن أمام خطاب أيديولوجي/ سياسي، يلجأ لانتزاع المفاهيم والعبارات والنصوص من متون وسطور الكتب بعد فصلها عن سياقها الموضوعي والتاريخي، في محاولة لترويج فكرة خطأ مقاومة المحتل، القوي والقادر والمقتدر، وهذه هي خلاصة قولهم، مع تركيزهم على أن بداية الكوارث الراهنة إنما بدأت مع جريمة حرب السابع من أكتوبر 2023م، ضد الصهاينة المدنيين، وبدون سابق إنذار ولا عدة جاهزة للمقاومة، ومن هنا تحميلهم السابع من أكتوبر 2023م، المسؤولية، لأن الحق في المقاومة عند بعضهم مرتبط بالقدرة، مختزلين مفهوم القدرة بالسلاح، وليس بالحق، والقوانين الدولية، وبالإرادة والإصرار على مراكمة فعل المقاومة في الواقع، وبهذا المعنى من الخطاب تتحمل المقاومة كل المسؤولية عن كل ما يجري، بما فيه مسؤولية المقاومة عن توسع حرب الإبادة كما يرى البعض، وبذلك، وبسبب هذه المقاومة المغامرة، أضعنا ما تبقى لنا من أرض في فلسطين، وهو خطاب يشرعن أيديولوجيًا وسياسيًا وإعلاميًا لاستمرار الاحتلال وجرائم حرب الإبادة، إذا لم تتوقف المقاومة عن عبثها ومغامراتها وجنونها بحق الشعب الفلسطيني، وهو ذات ما يقوله الخطاب الصهيو/أمريكي، وعتاة اليمين الصهيوني المتطرف!
 
حيث نجد أنفسنا أمام خطاب ينطلق من بعض الكلمات والعبارات والمفاهيم، بل من بعض الوقائع والحقائق، ليس لقراءتها في سياقها الموضوعي والتاريخي، لتقديم قراءته حولها، بل ليحولها إلى نقطة وقاعدة انطلاق لبث ونشر خطاب الهزيمة وتصوير أن المقاومة إما مستحيلة، أو هي في كل الأحوال هزيمة مسبقه قائمة ومطلقة في الواقع، وهنا يكمن بؤس بل خطر مثل هذا الخطاب، لأنه كما تقول مفرداته ومعطياته وتعبيراته، هو أن تاريخ حركة التحرر الوطني المعاصر، إنما هي نكسات وهزائم متواصلة ولا نقطة ضوء تحررية انتصارية فيها، ومن أن جمال عبدالناصر -وأمثاله- هو عنوان للفشل والعجز والهزيمة، ومن أن السادات وهو الذي حول النصر العسكري العظيم في السادس من أكتوبر 1973م، إلى هزيمة سياسية وقومية كبرى، هو البطل القومي وصانع "السلام"، في المنطقة، السلام الذي نتجرع مراراته وويلاته حتى اللحظة في كل المنطقة العربية، وهنا بيت القصيد، وخلاصة القول في مثل هذا الخطاب.. خطاب يحاول اغتيال أبطال المقاومة حتى بعد قتلهم من قبل الكيان الصهيوني، الذي حولهم بالاغتيال إلى حالة أسطورية رغمًا عنه، وهذا ما يقوله بعض اتجاهات الإعلام الغربي، ونموذج ذلك البطل الأيقونة، يحيى السنوار، الذي تكيل له مثل هذه الكتابات الشتائم والتجريح تساوقًا مع الخطاب الصهيو/أمريكي، والخطاب الإعلامي والسياسي الغربي المتصهين كما تطالعنا به بعض الفضائيات العربية الملحقة بالعجلة الأيديولوجية والسياسية الاستعمارية، في محاولة نشر وتعميم ثقافة الهزيمة، ولذلك يسارعون في نقد كل أمل في انتصار المقاومة في الميدان على العدو الصهيوني في هذا الموقع أو ذاك، مع فارق حجم القوة والتسليح بين الطرفين، حيث الحرب يشترك فعليًا فيها كل الغرب الرأسمالي الاستعماري، وليس الكيان الصهيوني منفردًا، وهو ما تقوله حقائق ووقائع ما يجري اليوم على الأرض، ليس من حيث الدعم اللوجيستي والعسكري بالسلاح وبالمال، بل المشاركة الفعلية في حرب الإبادة الجارية.
 
لقد تحولت المقاومة في فلسطين ولبنان، في خطاب هذا البعض، إلى خرافة وإلى وهم مرضي/ سيكوباثي، وتصويرهم حركة التحرر المقاومة في صيغتها الإسلامية، بأنها تنشر وتعمم اللاعقلانية، والمذهبية والطائفية، ومن أنها تصيب المجتمع بالعصابية، وتمزيق النسيج المجتمعي، مع أن ما يجري يقول إن العدوان الصهيوني وجرائم حرب الإبادة الجماعية، إنما عمقت أكثر من وحدة المجتمع، ومن مساحة حضور الفعل المقاوم بعد أن أكدت التفاف الحاضنة الاجتماعية والمجتمعية حول المقاومة، وجعلت العالم الديمقراطي غير الرسمي، في الجامعات العالمية، وفي المدن والشوارع الأوروبية، يقف علنًا وبوضوح في صف المقاومة الفلسطينية.
 
إن الأمر الذي يكشف بعد وملامح العداء للمقاومة -أية مقاومة تحررية- في مثل هذا الخطاب، هو تعريضه وتجريحه بكل تاريخ حركة التحرر الوطني العربية المعاصر، ولذلك بدأ وظهر جمال عبدالناصر في خطابهم رئيسًا غير ديمقراطي، مستبدًا، فاشلًا وعاجزًا، هو سبب كل النكسات والهزائم، تبدى وظهر معها الشهيد البطل يحيى السنوار، "بأنه مهزوم ومذل.. زعيم مهزوم ومهان مثلنا". قراءة هي مصادرة على المطلوب، تريد أن تقول كل شيء فاسد ضد حركة التحرر والمقاومة في الأمس واليوم، حد ملاحقتهم المقاومين إلى القبور، والعبث بأسمائهم وتاريخهم بلغة استعمارية، بعد تفصيل نقدهم الخائن على مقاس حلم الخطاب الصهيو/أمريكي. متجاهلين عبدالناصر الثورة، عبدالناصر ومقاومة العدوان الثلاثي ودحره والانتصار على ما تبقى من المشروع الاستعماري القديم، الفرنسي/ البريطاني، قافزين على عبدالناصر وتأميم قناة السويس 1956م، لصالح الشعب المصري كله، واستعادة أموال الشعب المنهوبة واستكماله تحرير السيادة الوطنية، على أرضه واقتصاده الوطني، عبدالناصر المعادي للاستعمار، عبدالناصر الإصلاح الزراعي لصالح الفلاحين الفقراء، عبدالناصر ودوره السياسي الكبير منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات في بلورة مشروع رؤية حركية تنظيمية للشعب الفلسطيني تضم جميع أبناء الشعب الفلسطيني، ليقوموا بدورهم في التحرير والاستقلال، وكانت ثمرته بعد انتهاء فترة الزعيم أحمد الشقيري، في إعلان "منظمة التحرير الفلسطينية" في العام 1964م، ومساهمته في تشكيل "حركة فتح"، ودعمها سياسيًا وعسكريًا، وبخاصة مساهمته في تشكيل قوات "العاصفة" عام 1965م. عبدالناصر الذي كان ضمن قوام الجيش المصري خلال نكبة 1948م، وبهذا المعنى كانت فلسطين كقومي عربي وتقدمي حاضرة في عقله وفي وجدانه، كما أن عبدالناصر هو مهندس حرب الاستنزاف التي لولاها لما كان انتصار السادس من أكتوبر 1973م، لأنه من أعاد بناء الجيش المصري بعد هزيمة يونيو 1967م.
 
عبدالناصر الذي وصل للسلطة فقيرًا، ورحل عنها وهو أفقر من لحظة وصوله إلى السلطة، بشهادة الاستخبارات الأمريكية والغربية، وبدون أية شبهة فساد اقتصادي، عبدالناصر الداعم لثورة اليمن، ولحركات التحرر الوطني العالمية في إفريقيا وآسيا، عبدالناصر الذي يقول عنه د. أبو بكر السقاف، هو الذي جعل "الدور المصري قوميًا عربيًا، ولم يكن يومًا مصريًا، وقد ارتقى بحركة الضباط الأحرار اليمنيين إلى مستوى النضال ضد الرجعية والاستعمار، ووضع اليمن الجمهوري في مواجهتهما داخل شبه الجزيرة العربية بكل ما تعنيه للإمبريالية والأنظمة العربية التابعة فيها، كانت مصر المحاربة للاستعمار رافعة الحدث اليمني، ولولاها لظل محاولة من المحاولات في سلسلة الانتفاضات والانقلابات اليمنية"(انظر: د. أبو بكر السقاف، "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي"، ص٣٩). هذا ما يقوله السقاف، الماركسي، عن مصر في ظل عبدالناصر، وهو الذي وجه نقدًا فكريًا وسياسيًا قاسيًا للرئيس عبدالناصر، ولنظامه السياسي، في معرض قراءته الفكرية والسياسية النقدية، قال السلبيات في بعد السلطة السياسية، وتحدث بإعجاب الناقد المفكر عن الإيجابيات، وهي التي تغطي مساحة حكمه القصير، ولكنها العظيمة في تاريخ حركة التحرر الوطني العربية، هذا هو النقد والناقد الموضوعي، هذا هو النقد المزدوج، الذي ينمي المعرفة ويراكمها، وهو النقد الذي تحدث عنه المفكر عبدالكبير الخطيبي، في مفهومه "للنقد المزدوج"، وليس النقد السياسي الخائب، والخائن، كما هو مع بعض الكتبة، المتوحدين بعجلة الأيديولوجية الاستعمارية، ولذلك يقفز النقد الخائن على هذه الجدلية الإبداعية في النقد، ويتجاهل الوجه الآخر العظيم للنقد، الذي بدونه لا تكون ولا تكتمل العملية الفكرية النقدية، ولذلك يتجاهل مثل هذا النقد الأيديولوجي/ السياسي، أن عبدالناصر هو أبرز مؤسسي "عدم الانحياز والحياد الإيجابي" عام 1955م، وقس على ذلك.
إن خطل وبؤس مثل هذه القراءة ليس بريئًا، هي قراءة سياسية صرفة لا صلة لها بالفكر، ولا بالتاريخ، مهمتها تصفية حساب ليس مع المقاومة الفلسطينية، بل ومع كل تاريخ حركة التحرر الوطني والقومي، وجمال عبدالناصر، على رأسها، ولا أدل على ذلك من تمجيد السادات، الذي أخرج مصر من دائرة الدور والفعل القومي، في مقابل تشويه صورة رموز حركة التحرر الوطني العربية.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً