صنعاء 19C امطار خفيفة

الوقفة الأخيرة لشرطي المرور: حكاية الفوضى والفساد في صنعاء

الوقفة الأخيرة لشرطي المرور: حكاية الفوضى والفساد في صنعاء

وسط الفوضى في العاصمة صنعاء، تحول رجال شرطة المرور، المكلفون بإنقاذ الأرواح، إلى ضحايا مأساويين. وأصبح روتينهم اليومي يشكل مخاطرة كبيرة، فتطبيق قوانين المرور قد يعني تعريض حياتهم للخطر.

جسَّد كمال الهندوانة، الشخصية المحبوبة بين زملائه، هذا التفاني الذي لا يتزعزع. وفي أواخر أغسطس، كلفه التزامه الثابت بالواجب حياته. لقد أحدث موته إثر حادث مروري موجة من الصدمة في المدينة، مما ترك أصدقاءه وزملاءه في حالة من الحزن والأسى، عبروا عنها في منشوراتهم على السوشيال ميديا.

في 12 يوليو، أثناء قيامه بتوجيه حركة المرور في شارع السائلة، صدمته سيارة متهورة. وعلى الرغم من المناشدات اليائسة للمساعدة، أدى الإهمال الطبي في مستشفى الشرطة إلى إصابته بـ"التهاب السحايا" وبالتالي وفاته المأساوية، في أواخر أغسطس. وقبل شهرين فقط، لقي شرطي مرور آخر، مازن العادلي، مصيرًا مشابهًا.

في الثالث من مايو، بينما كانت المدينة تستعد لأسبوع المرور العربي، كاد مدير مرور منطقة المجمع الصناعي العقيد فضل الوشاح، أن يسقط في حادث مماثل عندما تحدت سيارة فورتشنر سوداء اللون قوانين المرور بتهور. وبدا السائق الذي انحرف بوقاحة إلى الأرصفة الوسطية لشارع الزبيري، وقاد سيارته عكس اتجاه حركة السيارات، كأنه يتحدى قوانين الجاذبية. وعندما تدخل الوشاح لإيقافه، رفض السائق الانصياع، واصطدم بالوشاح وأصابه. وقد عكست الحادثة، التي صورتها كاميرات المراقبة، تناقضًا صارخًا مع نوايا أسبوع المرور العربي السلمية.

وبعيدًا عن المآسي الفردية لشرطة المرور، فإن هذه الحوادث هي أعراض لأزمة مرورية أوسع نطاقًا في صنعاء. وبحسب الإحصائيات، قُتل وأصيب أكثر من 61 ألف شخص في حوادث مرورية مروعة في صنعاء بين عام 2001 ونهاية 2019، ليضاف إليها إحصاءات أخرى تضم نحو 12 ألف قتيلا ومصاباً خلال السنوات الثلاث اللاحقة. وأفادت إدارة المرور بوقوع 4065 حادثًا مروريًا في صنعاء في عام 2022 وحده.

لقد تسبب المتمردون الحوثيون، الذين سيطروا على صنعاء عام 2014، في تآكل سلطة شرطة المرور، مما جعلها هدفًا للرشوة والعنف. وبينما فشلوا في توفير بيئة آمنة لمستخدمي الطرق، يوثق هذا التحقيق كيف استعمل الحوثيون إنفاذ قوانين المرور كأداة للابتزاز، مما يعكس عدم كفاءتهم، والرفض العام المتزايد لحكمهم، وفقًا لخبير قانوني.

مع ذلك، غالبًا ما يلجأ ضباط وأفراد شرطة المرور، الذين يتقاضون أجورًا هزيلة ويعملون لساعات طويلة، إلى تدابير استثنائية ويائسة لتنظيم الطرق الخارجة عن القانون. يروي فايز عبدالله، وهو شرطي مخضرم وزميل للهندوانة، الممارسة المروعة المتمثلة في "إلقاء أنفسهم أمام المركبات المتحركة، والمخاطرة بحياتهم يوميًا" لفرض نظام يُنظر إليه غالبًا على أنه غير عادل.

يتطرق هذا التحقيق إلى الأسباب الجذرية لهذه الأزمة، ويبحث في دور انقلاب الحوثيين في إضعاف سلطة المرور وتعزيز الفساد المستشري، وكيف أسهم في خلق بيئة فوضوية وخطيرة لسائقي السيارات والمشاة والشرطة على حد سواء. ومن خلال المقابلات مع ضباط المرور والضحايا وشهود العيان والخبراء، سنوضح كيف تفاقم هذه العوامل التحديات التي تواجه شرطة المرور في إنفاذ القانون، والعواقب المأساوية التي ترتبت على الشعب اليمني.

 

نظام الابتزاز

قياسًا بفترة ما قبل الحرب، لم تعد لفايز وزملائه في شرطة المرور في صنعاء، سلطة فعلية، على مستخدمي الطرق، حتى عندما يتجاهلون الإشارات ويتحدون قانون السير. بيد أن هذا الافتقار إلى السيطرة لا يرجع فقط إلى تحدي المواطنين للقانون، بل إنه انعكاس لسلوك المليشيات من جانب السلطات الفعلية، التي تعتبر نفسها فوق القانون، وتحرض بنشاط ضد شرطة المرور، وتتهمها بالفساد. وقد أدى ذلك إلى خلق مناخ حيث يُنظر إلى هؤلاء الضباط على أنهم أهداف وليسوا منفذين.

ورغم الحملات المرورية المتكررة التي تهدف إلى تحسين السلامة، يبدو أن الدافع الأساسي وراء هذه الجهود هو الربح. ويواجه السائقون غرامات تعسفية، وحجز المركبات، والابتزاز الصريح. واضطر معتز عبدالله، أحد ضحايا هذا الابتزاز، واحتجاز سيارته لمدة يومين، إلى دفع مبلغ ضخم قدره 30 ألف ريال (حوالي 60 دولارًا) مقابل مخالفة بسيطة، كعدم حمل الأوراق، وهو ما يتجاوز بكثير الحد القانوني الذي يتراوح بين 1000 و5000 ريال.

ولعب وزير الداخلية عبدالكريم الحوثي، دورًا رئيسيًا في تسهيل هذا الفساد بإصداره قرارات بزيادة المخالفات المرورية تصل بعضها لنحو عشرين ضعفًا، وتبرر الحكومة هذه الزيادة بأنها رادعة، لكنها مخالفة للقانون بشكل واضح، ودافع مدير الإدارة العامة للمرور العميد بكيل البراشي، عن تصرفات الوزير. بيد أن مجلس النواب كشف مرارًا وتكرارًا زيف هذا الادعاء، وأوصى بإلغاء الزيادة، وسط تجاهل صارخ لتوصياته.

فشلت هذه الحملات في تحسين شروط السلامة أو الحد من الحوادث، وحتى زيادة الوعي المروري، فبمجرد انتهائها تعود الفوضى مجددًا، وتصبح الطرق ساحة صراع بين السائقين والمشاة وشرطة المرور. يشير عامر حمود، سائق حافلة، إلى أن القانون من المفترض أن يحمي حقوق الجميع، لكن الإجراءات تستهدف غالبًا الفئات الضعيفة مثل سائقي الحافلات والناس العاديين.

وركزت هذه الحملات في المقام الأول على فحص لوحات الترخيص وحمل الأوراق، وإهمال فحوصات السلامة الأساسية مثل الإضاءة، وماسحات الزجاج الأمامي، وإشارات المرور، وأجهزة إطفاء الحرائق، وأحزمة الأمان، والمثلثات العاكسة. ويتهم السائقون، الذين يكافحون لتغطية خسائرهم من الإصلاحات والمخالفات، شرطة المرور بسرقة "قوتهم"، حسبما يؤكد لـ"النداء" كمال وعامر وآخرون.

لقد أدت دورة الفساد، بما في ذلك الغرامات التعسفية وحجز المركبات، إلى نفور السكان، وتآكل الثقة في السلطات، وتأجيج الاستياء. كما تنتشر الرشوة على نطاق واسع داخل إدارة المرور، حيث يتم ابتزاز السائقين بشكل روتيني مقابل مبالغ تتجاوز بكثير الرسوم الرسمية. في عام 2017، عُرض على مالكي الدراجات النارية في البداية التسجيل مقابل 3000 ريال، ولكن المبلغ زاد لاحقًا بمقدار أربعة أضعاف المبلغ الرسمي، وعشرة أضعاف مع الرشوة. ويروي أصيل الذائبي، أحد سكان صنعاء، تجربته في دفع 30 ألف ريال لتسجيل دراجة نارية في يونيو 2023، على الرغم من أن الرسوم المعلنة رسميًا، في صفحة الضبط المروري، هي 11.800 ريال.

 

ضبط انتقائي

في أواخر عام 2021، نشر النظام الحوثي مسلحين ملثمين تحت مسمى "الضبط المروري"، بهدف "استعادة هيبة شرطة المرور"، في محاولة مبطنة لتعزيز السلطة والقضاء على المعارضة. وفي حين تم تقديم هذه القوة المسلحة كوسيلة لتحسين السلامة المرورية، فقد تم استخدامها في المقام الأول لتفريق الاحتجاجات وإرهاب المجتمع، كما حدث في مدينة إب (وسط البلاد) عام 2023، واستبدال ضباط شرطة المرور ذوي الخبرة بالموالين.

وتصوّر الدعاية الحوثية هذه القوة على أنها الحل السحري للطرق الفوضوية، لكن الكثيرين مازالوا متشككين. وقد دافع العميد البراشي، في لقاء تلفزيوني، بقوة، عن الضبط المروري، وألقى باللوم على مؤسسة الأشغال العامة والنقل لإهمالها البنية التحتية الأساسية وتأثيث وصيانة الطرق. ويصر على أن هذه العوامل هي الجناة الرئيسيون وراء الزيادة المزعجة في حوادث المرور، داعيًا إلى تحسينات عاجلة لتلبية المعايير الدولية.

وفي حين يعترف البراشي بالبيئة الصعبة التي تواجه شرطة المرور والسائقين والمشاة، إلا أنه يعتقد أن زيادة فرض القانون من خلال الحملات والمخالفات هو المفتاح لتحسين السلامة على الطرق. ومع ذلك، يشعر العديد من السائقين، بمن فيهم زكريا وحمود، بأنهم مجبرون على مخالفة القانون من أجل البقاء، طالما والسلطات تتجاهل مسؤولياتها في توفير البيئة الملائمة للسلامة على الطرق، مما يعرض أنفسهم والآخرين للخطر.

ويؤكدون أن "القوة وحدها لا تكفي" لمعالجة هذه القضية، إذ يواصل السائقون القيام بمناورات خطيرة، "ورشوة الضباط، وتجاهل القواعد دون عقاب"، بحسب فايز وآخرين. 

هناك مخالفات يكاد يشترك فيها كل اليمنيين في عموم البلاد، مثل عدم ارتداء حزام الأمان أثناء قيادة المركبات، أو عدم ارتداء الخوذة، أو الوقوف الخاطئ، لكنها لا تدون، وغيرها الكثير، وبعضها تعد مشكلة مزمنة تعاني إدارة المرور في السيطرة عليها منذ عقود. فمن بين 132 مخالفة مصنفة بموجب اللائحة الرسمية، لا تقيد شرطة المرور في الغالب سوى عشرة أنواع من المخالفات، كما يكشف فايز وآخرون. وقد أدى التطبيق الانتقائي لقوانين المرور هذا، وانتشار ثقافة الرشوة، إلى خلق حلقة مفرغة، إذ يبدو أن الجميع خاسرين.

ولتعزيز مخططها الابتزازي، عملت جماعة الحوثي على إشراك المجتمع، وتشجيع المواطنين على الإبلاغ عن مخالفات بعضهم البعض مقابل نسبة من الغرامات التي يتم تحصيلها، وهو ما خلق مناخًا من الخوف وعدم الثقة بين سكان المدينة. وفي أغسطس الماضي، أعلنت السلطات عن توزيع ملايين الريالات للمبلغين كمكافآت.

 

رخصة الموت

في السنوات الأخيرة، ازدهرت ظاهرة قيادة الأحداث للمركبات في شوارع العاصمة بشكل ملحوظ، بسبب تجاهل السلطات المرعب وعدم اعتراضها لهذه المخالفات. وتشير إحصائيات العام 2020 إلى أن واحدًا من كل ثمانية سائقين متورطين في الحوادث غير مؤهل قانونيًا للقيادة (أحداث أو لا يملكون رخصة قيادة).

ينص قانون المرور اليمني رقم 31 لسنة 2000 على أن السائق غير الحائز على إجازة سوق يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على أسبوعين أو بغرامة مالية لا تزيد على عشرة آلاف ريال كل من قاد آلية بدون رخصة قيادة أو برخصة لا تؤهله لقيادتها أو صدر ضده حكم قضائي بسحب الرخصة منه أو وقف سريانها.

لكن هذا النص لم يُفعل. ومع ذلك، فالكارثة تمتد حتى إلى أولئك الذين يحملون تراخيص. فقد أصبح إصدار رخصة القيادة عملية روتينية، مقابل 10 آلاف ريال (20 دولارًا أميركيًا)، ودون الخضوع لأي اختبارات حقيقية، وفق ما يؤكد لـ"النداء" عدد من الحاصلين على تراخيص القيادة، مما يلقي بظلال من الشك على أهلية العديد من حاملي التراخيص.

أكثر من 73 ألف يمني قضوا بحوادث المرور خلال عقدين

في صيف 2022، فقدت انتصار، وهو اسم مستعار، حياتها بشكل مأساوي في حادث سير بالعاصمة، بعد وقت قصير من حصولها على "رخصة قيادة، استخرجتها في ثلاث ساعات فقط"، بحسب قريبتها. وحالتها ليست معزولة؛ فخلال عامي 2022 و2023، حصل أكثر من 73 ألف شخص على رخص القيادة الخاصة بهم بنفس الطريقة، بمعدل 100 رخصة جديدة تصدر يوميًا، بحسب مصادر مرورية، مؤكدة أن سلطة الترخيص لم ترفض صرف رخصة لأي فرد وصل إليها، ولم تلغِ رخصة أي شخص غير صالح للسوق.

في غضون ذلك، يكافح فؤاد اليمني، منذ عامين، للحصول على رخصة في عُمان، لكنه فشل مرارًا وتكرارًا في الاختبار، رغم حصوله على رخصة سارية المفعول من صنعاء!

ويشير الخبراء إلى أن الافتقار إلى التدريب والاختبار المناسبين يؤديان إلى زيادة كبيرة في عدد السائقين غير المؤهلين، وبالتالي خلق بيئة خطرة لكل من السائقين والمشاة، وتهديد مرعب للسلامة العامة. ووفق فايز فقد تسبب العديد من هؤلاء الأشخاص في وقوع حوادث خطيرة، أدت إلى خسائر بشرية ومادية، مثل فقدان حياتهم أو حياة أشخاص أبرياء آخرين.

مشكلة أخرى تسهم بشكل رئيسي في الزيادة المرعبة للحوادث المرورية، هي الانفجار الهائل في عدد المركبات في صنعاء في السنوات الماضية. وبالرغم من أن الازدحام ونقص تحسين الطرق مثلا أزمة مرورية حتى قبل اندلاع الصراع، إلّا أن سلطات الانقلاب الحوثي واصلت إصدار آلاف التراخيص للمركبات سنويًا، معترفة بفشلها في وقف التدفق بموجب قرارها في مارس 2021، بحظر دخول المركبات الجديدة إلى العاصمة. إذ كشفت بيانات رسمية عن زيادة بنسبة 20٪ في عدد المركبات منذ ذلك الحين، وبما يعادل أزيد من 160 ألف سيارة. وقد أدى هذا، إلى جانب العدد المتزايد من الدراجات النارية، والحمولات الزائدة والكبيرة للشاحنات، إلى إجهاد طرق المدينة المزدحمة بالفعل، وتفاقم الفوضى المرورية، حسب عصام ياسين، أحد مهندسي وزارة الأشغال.

وخلال الصراع دخلت آلاف السيارات. وبحسب الإدارة العامة للمرور، فإن عدد المركبات المسجلة في مناطق سيطرة الحوثيين، بلغ أكثر من 1.4 مليون مركبة تابعة للقطاع الخاص فقط، عدا السيارات الحكومية والدراجات النارية، فضلًا عن عدد غير معلوم للمركبات غير المسجلة، وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على أمن البلاد.

 

لعبة البقاء القاتلة

في المشهد الذي فرضته الحرب على العاصمة، برز تناقض صارخ بين زيادة عدد المركبات وتراجع وتيرة استخدامها، ويعزو فايز وآخرون، ذلك إلى أزمة الوقود، التي قلصت بشكل كبير من القدرة على التنقل الشخصي بسبب ارتفاع الأسعار. مشيرين إلى أن "نسبة السيارات الواقفة أكثر بكثير من السيارات المتحركة".

وبينما من المفترض أن يخفف هذا من الازدحام المروري، فإن مشكلة اقتصادية أخرى جعلت الطرق مزدحمة طوال الوقت: زيادة خدمات مركبات الأجرة، ومن بينها الدراجات النارية. فمع انعدام الفرص جراء الحرب وتوقف صرف رواتب موظفي الحكومة منذ عام 2016، أجبر اليأس الاقتصادي آلاف اليمنيين العاطلين على اتخاذ تدابير استثنائية وخطيرة كوسيلة لتغطية نفقات أسرهم والبقاء على قيد الحياة، وبرزت ظاهرة قيادة المركبات لنقل الركاب، كحل، لكنها فاقمت المشكلة المرورية.

خلال السنوات الثلاث الأولى، أعلنت إدارة المرور عن إصدار أكثر من 16 ألف لوحة سيارة أجرة جديدة في صنعاء، وفق إحصائيات رسمية. وفي يناير 2023، بلغ عدد باصات الأجرة وحدها (متوسط وصغير)، أكثر من 32 ألف باص، وفق تصريحات للبراشي. بالإضافة إلى آلاف من سيارات التاكسي، والدراجات النارية التي تضاعف أسطول العاصمة حوالي عشر مرات، بلغت أكثر من 300 ألف دراجة، وفق تقديرات حديثة. وقد انتشرت هذه الظاهرة في أنحاء البلاد، وفي حين أشار تقرير السلامة الدولية إلى وجود 100 ألف دراجة في العام 2013، يقدر خبراء المرور عددها حاليًا بـ1.3 مليون دراجة، في ظل عدم وجود إحصاءات رسمية دقيقة لذلك. ما يعكس تدهور الظروف المعيشية والقدرة النسبية على تحمل الناس تكاليف الدراجات النارية مقارنة بالسيارات.

وكان العقيد عبدالرحمن محمد، ضابط الحرس الجمهوري السابق، من بين أولئك الذين اضطروا للمخاطرة بحياتهم على الطرق الخطرة في المدينة. ويؤكد أنه تعرض لحوادث عديدة على مر السنين، وأصيب بكسور في ساقه اليمنى، مما جعله ملازمًا للفراش لعدة أشهر. وكان عجزه عن ركوب الدراجات له عواقب وخيمة على أسرته بأكملها.

في الفترة ما بين 2017 و2022، ارتفعت حوادث الدراجات النارية بنسبة مذهلة بلغت 112 في المئة. وقد أسهم الافتقار إلى معدات السلامة، مثل الخوذات، في ارتفاع معدل الإصابات والوفيات. ورغم أن القانون يفرض ارتداء الخوذات، إلا أنه لا يتم تطبيقه حاليًا. ويبرر العديد من راكبي الدراجات النارية قرارهم بالقول إنهم لا يستطيعون تحمل تكاليفها.

ورغم المخاطر المرورية التي يسببها هؤلاء المتمردون ذوو العجلتين، فإن السلطات الرسمية المتعاقبة تعاملهم كمشاة في حوادث المرور، مخالفة بذلك أحكام القانون التي تصنفهم كمركبات، الأمر الذي جعل سائقي الدراجات النارية بعيدين عن أية مساءلة أو عقاب.

ومؤخرًا، أصدرت إدارة المرور العامة جملة من التعميمات لتنظيم عمل الدراجات النارية، أبرزها معاملتها كمركبات آلية، وحظر مرورها في شارع الستين. ولكن ذلك لم يخفف من الفوضى، وفشل الحظر في تنظيم العملية، ولم يطبق فعليًا.

في خطوة غير معتادة وخطيرة، وتحريف مروع للعدالة، فرضت إدارة المرور عقوبة غير تقليدية على سائقي الدراجات الذين انتهكوا قوانين المرور. فبدلًا من فرض الغرامات أو العقوبات القانونية، طلبت الإدارة من هؤلاء الأفراد العمل كمنفذين لحركة المرور بشكل مفاجئ لمدة ساعة، مرتدين الزي الرسمي، وتحمل مسؤوليات ضابط عادي.

لا يعرض هذا الترتيب المختل، الجمهور، للمخاطر المحتملة التي قد يفرضها أفراد غير مدربين ينظمون حركة المرور فحسب، بل يثير أيضًا مخاوف جدية بشأن التزام الإدارة بالسلامة العامة. إنه مشهد سريالي، وعقوبة غريبة ومضحكة، وتجربة ملتوية في التشهير العام، وتجاهل صارخ للسلامة. فمن هو الأفضل تجهيزًا لتنظيم حركة المرور من شخص تم ضبطه للتو وهو يخالف القواعد؟

 

إهمال الضحايا: نصف جسد

لقد اكتسبت حوادث المرور، التي تبدو كأنها أمر عادي في العديد من أجزاء العالم، بعدًا كارثيًا هنا، حيث لا تتسبب هذه الحوادث في إصابات جسدية ووفيات فحسب؛ بل إنها تخلف وراءها دمارًا ماليًا واضطرابات اجتماعية وصدمات عاطفية، وأسرًا تتصارع مع العواقب المدمرة.

يعرف باسم الحمادي، وهو عامل يومي يبلغ من العمر 40 عامًا، هذا الألم عن كثب. فقد أصيب في النخاع الشوكي بعد حادث دهس في عام 2017. لكن محنته لم تنتهِ عند هذا الحد. ففي ظل الرعاية الطبية غير الكافية ونظام يعطي الأولوية للمغفرة على العدالة، أصيب الحمادي بالشلل من الخصر إلى الأسفل، ووجد نفسه مثقلًا بالتكاليف المالية لإصاباته والثمن العاطفي لفقدان استقلاليته.

الحمادي هو واحد من 2270 يمني أصيبوا بسبب الحوادث المرورية في صنعاء العام نفسه، وهو واحد من آلاف اليمنيين الذين غيرت الاصابات حياتهم بشكل لا رجعة فيه، على مدى العقدين الماضيين. لقد باعت أسرتا السائق والحمادي كل ما لديها لتغطية نفقات علاجه، فقط لتجد نفسها تواجه تحديًا أكثر صعوبة: تأمين مستقبله. وفي ظل غياب أي تأمين، اضطر الحمادي إلى قبول تسوية من أسرة السائق، تاركًا إياها بمبلغ زهيد دون أية وسيلة للإعالة، معتمدًا على الصدقات من أجل البقاء.

إن قصة الحمادي ليست فريدة من نوعها، فقد عانى الآلاف من اليمنيين من مصائر مماثلة، وتحطمت حياتهم بسبب الإهمال المركب والمتعدد لسلامة الطرق. فوفقًا لتحليل بياني، للفترة بين عامي 2017 و2022، وصل عدد الإصابات الناجمة عن حوادث المرور في صنعاء وحدها، نحو 19 ألف إصابة، أكثر من 65 في المئة منها خطيرة، وكثير منها أدى إلى الإعاقة، مما ترك آلاف الأسر بدون معيل، إذ يمثل الرجال أغلبية غير متناسبة أكثر من 80% من المتضررين.

 

ثقافة الإفلات من العقاب

إن قانون المرور لعام 1991 يفرض تأمينًا لحوادث السيارات لمصلحة الغير، للموافقة على تسجيل المركبة الآلية، ولكنه لم ينفذ. وقد أدى هذا الافتقار إلى التأمين إلى تحمل الضحايا وأسرهم العبء الكامل من التكاليف المالية والعاطفية. ففي بلد يكافح فيه الكثيرون لتلبية الاحتياجات الأساسية، فإن احتمال تغطية النفقات الطبية وإعادة التأهيل قد يكون مرهقًا.

كما أسهم غياب التأمين في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب. وينظر كثيرون إلى حوادث المرور باعتبارها فعلًا قدريًا، وليس مأساة يمكن منعها. وقد أدى هذا المنظور إلى الإحجام عن تحميل السائقين والسلطات المسؤولية، والسعي إلى التعويض عن الأضرار. وغالبًا ما يُترَك ضحايا حوادث المرور ليدافعوا عن أنفسهم، مع القليل من الدعم من السلطات أو بدونه.

إن التكلفة البشرية لهذه الفوضى المرورية غير قابلة للقياس. والواقع أن التكلفة الاقتصادية مذهلة بنفس القدر، فقد بلغت تكلفة حوادث المرور في صنعاء أكثر من 9 مليارات ريال (حوالي 18 مليون دولار) بين عامي 2015 و2022. ولكن الخسائر المالية الحقيقية من المرجح أن تكون أعلى من ذلك بكثير، لأنها تمتد إلى الخسائر غير القابلة للقياس التي كابدها أولئك الذين أصيبوا بالإعاقة أو فقدوا قدرتهم على العمل.

إن الطريق إلى التعافي طويل وشاق بالنسبة لضحايا حوادث المرور في اليمن. وقد اضطر العديد منهم إلى بيع ممتلكاتهم أو طلب المساعدة من الجمعيات الخيرية لتغطية النفقات الطبية وفقدان الدخل. بل إن بعضهم سُجنوا لعدم دفع الغرامات، كالسائق الذي صدم الحمادي، حيث سجن أربع سنوات رهنًا بمبلغ 9 مليون كديون للمستشفى، بمخالفة للقانون، ولكن النيابة لم تفرج عنه حتى تكفل فاعل خير بسداد ما عليه، بعد صدور حكما بإعساره. وقد أدى الافتقار إلى التأمين إلى تفاقم هذه التحديات، مما دفع أسرته الفقيرة بالفعل والتي كانت تعتمد على عمله للعيش، إلى المزيد من الفقر واليأس.

وليد حمزة، الذي قُتلت ابنته في حادث سير في أغسطس2013، لم يحصل بعد على العدالة أو التعويض. وقد فر سائق التاكسي الذي تسبب في الحادث من مكان الحادث، تاركًا الأسرة لتتدبر أمورها بنفسها. وتسلط قصة وليد الضوء على استخفاف النظام بسلامة مواطنيه، وفشله في تحقيق العدالة.

ومع تصدي اليمن للعواقب المدمرة لحوادث المرور، فمن الضروري معالجة القضايا الأساسية. ويعد تحسين البنية الأساسية للطرق، وتعزيز تعليم السائقين، وتنفيذ قواعد السلامة الصارمة خطوات أساسية. ولكن ربما يكون الأهم من ذلك هو تعزيز ثقافة المساءلة والمسؤولية. وعندئذ فقط يمكن لليمن أن تبدأ في معالجة التكاليف البشرية والاقتصادية لهذه الأزمة المأساوية.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً