مع قرب الاحتفاء بالذكرى الثانية والستين لثورة سبتمبر، يتعين على اليمنيين أن يناقشوا بدون ادعاء احتكار الصواب جمهورية المستقبل التي تحقق لهم الاستقرار والازدهار والتعايش، وتحفظ الوحدة، وألا يتوقفوا عند زمن معين وأشخاص بذاتهم كنماذج، لأن سجل الجمهورية محبط جدًا.
بعد مصالحة عام ١٩٧٠ رد الراحل أ. محسن العيني على الضباط الشباب الذين كانوا قلقين من "إفراغ الجمهورية من مضامينها"، قائلًا: نحن الذين نصنع المضامين. قلق الضباط كان في محله، ورد العيني كان في محله أيضًا. منذ عام ١٩٧٠، عام السلام، لم تكن الجمهورية التي عشناها هي الجمهورية التي بذل الشعب ومصر أعلى وأغلى الأثمان البشرية والمادية لنقل اليمن من ماضٍ مرفوض إلى حاضر مختلف. عمد الخارج إلى إفراغ الجمهورية من مضامينها، ونجح، وفشلنا نحن المعنيين بتحقيق أهدافها ببناء جمهورية حقيقية.
الخارج الذي تآمر للقضاء عليها كان بلغة اليوم عاصفة أو تحالفًا دوليًا شمل إسرائيل التي اعتبرت ثورة اليمن تغييرًا في موازين القوى في المنطقة لغير صالحها ولصالح مصر عبدالناصر، وسارعت بتقديم الدعم للملكيين عبر ٣٣ رحلة جوية عبرت المجالين الجويين السعودي والجيبوتي، المستعمرة الفرنسية آنذاك، بعلم الرئيس ديجول. بريطانيا بحكم مصالحها في الجنوب والخليج، كانت الأنشط في التحالف بعد السعودية. وكانت السعودية بفيصلها وكمال أدهم وأمير عسير السديري وغيرهم، على علم تام بدور الموساد والدعم الإسرائيلي للملكيين. دعمت السعودية الملكيين بالسلاح وبالمال، ومولت مرتزقة غربيين على رأسهم البريطانيون الذين كانوا يتقاضون منها مرتبات شهرية مجزية مقدارها خمسمائة جنيه إسترليني شهريًا لكل مرتزق، والسماح لهم بالإقامة فيها والتواصل مع مسؤوليها. أما بريطانيا فقد سيرت أطول قافلة من بيحان إلى الشمال، تحمل أسلحة للملكيين ومرتزقتها، وغضت الطرف عن نشاطهم وعن مكتبهم في لندن. تَجمع المرتزقة البريطانيون في كيانين سميا "مجموعة السويس" ثم "مجموعة عدن"، تشكلا من سياسيين محافظين وضباط للانتقام من مصر بعد هزيمة بريطانيا في العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، ولدورها في دعم الثورة المسلحة في الجنوب التي أدت إلى استقلاله عام ١٩٦٧. بعض هؤلاء شاركوا مشاركة فعلية في الحرب ضد الجمهورية، واستمر دورهم حتى حصار صنعاء (٢٧ نوفمبر ١٩٦٧- ٨ فبراير ١٩٦٨)، وقاموا بتدريب القوات الملكية على فنون القتال وشراء أسلحة كان منها أسلحة من دولة اشتراكية هي بلغاريا، ومنهم من تمكن من الدخول إلى صنعاء للقيام بأعمال التجسس، ومنهم من اقترح تدمير طائرات مصر الحربية المكشوفة بمطار صنعاء. استفادت إسرائيل من تدخلها في اليمن بالتعرف على نقاط قوة وضعف القوات المصرية، وعلى أدائها القتالي، واستثمرت ذلك في عدوانها المبيّت والمنسق مع بريطانيا وأمريكا على مصر عام ١٩٦٧.
كانت تضحيات مصر لإحباط تحالف وأد الثورة بالقياس إلى إمكانياتها المحدودة، فوق طاقتها، ولو لم يدعمها الاتحاد السوفيتي لوجستيًا وعسكريًا، مجانًا في أحيان كثيرة، ما كان للدور المصري أن يستمر. ومن نافلة القول إن اليمنيين قدموا تضحيات هائلة، وقد تدمرت وتضررت مدن وقرى ومزارع من الحرب، وقتل الآلاف، وضعُف الاقتصاد الذي كان يعتمد على الزراعة، مما دفع مصر أن تسد عجز الميزانية بجانب رشاواها بالذهب لشيوخ قبائل منهم أبو وجهين.
كل هذه التضحيات قد تذهب سدى إلى الأبد إذا لم يعمل الكل على إعادة بناء الجمهورية بناء سليمًا يحقق مصالح غالبية المواطنين لتجنب تكرار النكسات، والأداة هي جمهورية ديمقراطية برلمانية لا يستقوي فيها فرد بسلطة مطلقة، ويمارس الفساد دون رقيب. جمهورية حقيقية تمكن المواطن من رفض أي نظام، هجين/ بديل/ سقيم، حتى ولو زُعِم أنه هبط به وحي. لقد نجح اليمنيون عام ١٩٦٥ بإفشال مخطط الدولة الإسلامية الذي تورطت فيه أقلية جمهورية ضمها لقاء الطائف في أغسطس عام ١٩٦٥، وشارك بعضها في مؤتمر حرض ضمن الوفد الملكي في نوفمبر ١٩٦٥.
اليمن اليوم كبيرة ومختلفة ومتنوعة، ولا يمكن لشعبها الذكي قبول المشاريع الفاسدة والمستوردة، وفي الوقت نفسه لن نقبل بعودة من أساؤوا استخدام السلطة لثلث قرن، وأسهموا في تفكيك الجمهورية إلا كمواطنين.
عن المظالم والتفكيك
يحلو للبعض حصر المظالم اليمنية في فترة ما قبل ١٩٦٢، وكأن عصا الجمهورية السحرية قد حولت اليمن الجمهوري إلى واحة للعدالتين الاجتماعية والعدلية والرخاء. الحقيقة أن المظالم تواصلت بصور أبشع رغم التطور الشكلي للعدالة القضائية بإصدار قوانين وإنشاء مبانٍ حديثة ومسميات ووضع ميزان العدالة الضائعة في كل مبنى مع عبارة "العدالة أساس الملك"، لابن خلدون.
لقد ظلت اليمن بلد المظالم والفساد والمحسوبية والانتهاك الذي لا يكل للشريعة التي خلقت بيئة صالحة لصراعات مسلحة مُقاومة في أكثر من منطقة. وبرغم كل تلك المظالم لم يطلب أي شمالي انفصال منطقته، ولم تطلب صعدة الانفصال وقد تعرضت لست حروب وحشية تتصل أواخرها بالتوريث، وسادستها سميت "عملية الأرض المحروقة" (١١ أغسطس ٢٠٠٩) التي لم ترتكب جرمًا يماثل جرمها سوى أمريكا في فيتنام. وعن الجنوب ليس هناك من ينكر بأن الجنوبي عانى كثيرًا من سياسة مقصودة وممنهجة لإذلاله في إطار تطهير ديموغرافي وتهجير نُخبه التي صنفت كعدو خارج اليمن، وحوربت حتى في منافيها.
التوريث لم يكن يخفى على أحد، والمضي فيه سار على قدم وساق، وقد أحبطته ثورة الشباب التي وإن لم تحقق أهدافها، إلا أنها غيرت موازين قوى كثيرة. لقد ارتُؤي أن يتم التوريث بتوظيف دستور شرعن خبراؤه للتوريث بآلية لا سابقة لها في تاريخ دساتير العالم.
إن قراءة المادة ١١٦ من الدستور التي كتبتُ عنها من قبل، تبين بجلاء التفنن والخبث الدستوروي الغريب لنقل السلطة. تنص المادة ١١٦ على ما يلي: "في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى مهام الرئاسة مؤقتًا نائب الرئيس لمدة لا تزيد عن ستين يومًا من تاريخ خلو منصب الرئيس يتم خلالها إجراء انتخابات جديدة للرئيس، وفي حالة خلو منصب رئيس الجمهورية ونائب الرئيس معًا يتولى مهام الرئاسة مؤقتًا رئاسة مجلس النواب، وإذا كان مجلس النواب منحلًا حلت الحكومة محل رئاسة مجلس النواب لممارسة مهام الرئاسة مؤقتًا، ويتم انتخاب رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز ستين يومًا من تاريخ أول اجتماع لمجلس النواب الجديد".
في كل دول العالم تنقل السلطة إلى رئيس السلطة التشريعية في حالة الفراغ بوفاة الرئيس ونائبه، أما نحن فقد منحنا خمسة هم رئاسة مجلس النواب وظيفة الرئيس، وفي حال أن مجلس النواب منحل تقوم الحكومة المكونة من رئيس وأحيانًا ستة وثلاثين وزيرًا بأعمال رئيس الجمهورية. هؤلاء لا يوجد قانون ينظم وظيفتهم واختصاصاتهم الجديدة وحدودها وحتى من يرأسهم. الحكمة اليمانية ضلت طريقها عمدًا، وهزمتها حماقة التوريث المحمومة، لأن من يفترض أنه سيحكم خلال الستين يومًا من هؤلاء يؤمن أن هناك وريثًا معلومًا للكافة ينتظر، وأن فردًا بعينه من المجلسين ستُحرّم عليه تفاحة السلطة. اليوم نريد جمهورية تلبي مطالب غالبية اليمنيين، وتقينا مثالب الماضي. نريد جمهورية برلمانية تحول دون الحكم الفردي الاستبدادي المناطقي. جمهورية لكل الناس ولكل مكونات اليمن الجغرافية.