معلوم ومفهوم في عهد الضياع العربي أن أية دولة لن تستخدم قواتها المسلحة إلا لمصلحتها الوطنية المباشرة، وأن عهدًا كعهد عبدالناصر الاستثنائي، لن يتكرر. ناصر هب لنجدة ثورة اليمن عام ١٩٦٢، وسوريا عام ١٩٦٧، ودعم حركات تحرر وطنية عديدة، وجعل العربي محترمًا، وحقق تنمية بخطط خمسية بميزانية لا تتجاوز مليارًا وخمسين مليون جنيه مصري، تساوي وقتذاك ملياري دولار لا غير. ولثلاثة وسبعين عامًا فشل العرب في تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، وفي نفس الوقت لم يجرؤوا على إلغائها، وما أفلحوا فيه هو إضعاف بعضهم البعض سياسيًا واقتصاديًا لمصلحة ضيقة أو لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل.
وفي العقود الأخيرة انشغلت الحكومات العربية إما بشؤونها وطموحاتها الخاصة كمراكمة الثروة، مع صفر تنمية حقيقية، وهذه الثروات قد يصبح مصيرها كالمصير الذي قد يُصفّر الأموال الروسية في أمريكا وأوروبا الغربية عندما يحين الحين، أو ثانيًا بتقوية قواتها المسلحة العاملة عن العمل وتخصيص ميزانيات كبيرة لتسلح لا تتطلبه احتياجات الأمن الوطني يثري مجمعات مصانع السلاح الأمريكية، ويحل جزءًا من مشاكل البطالة الغربية بصورة عامة، وثالثًا قبول لا يقاوم لسقف التسليح الأمريكي الذي يستثني دولة الإبادة، ويحد من سيادتها لتُبقي كيانها الرديف في فلسطين المحتلة، هو الأقوى على كل جيوش الدول العربية. ورابعًا لم تبحث هذه الدول كتركيا عن بديل للتسليح، لأنها فاقدة للاستقلال والإرادة الحرة. وباستثناء مصر التي يعتبر تحديثها لترسانتها العسكرية مبررًا وواجبًا، فإن هذه الدول لا تحادد دولة الإبادة الجماعية، ولن تخوض حربًا ضدها بأية حال من الأحوال، لكي تشتري ببلايين الدولارات سنويًا أسلحة لا تستخدم، وتُنشّط فقط صناعة الموت الأمريكية ضدنا في فلسطين.
الثروة خفضت منسوب التضامن العربي ليصبح في علاقة تضاد عكسية مع الثروة والوفرة. لم نكتفِ بما سبق، بل أسهمنا مع أمريكا في تدمير وشل دولة مواجهة مع كيان الإبادة، هي سوريا، وصمتنا على احتلال أمريكا لجزء من ترابها الوطني، بحيث تتمحور هموم سلطتها على مواجهة المشاكل المعيشية اليومية، والعجز عن شراء أسلحة دفاعية متطورة ضد الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة والمهينة لكل العرب.
في ضوء ما سبق، يمكن القول بأن أمة العرب تسهم في إضعاف نفسها عمدًا أو جهلًا أو بالأمر، وهذا من أسباب الخنوع الذي أنتج نقيضه، الهيمنةالصهيونية ووحشيتها في فلسطين المحتلة منذ الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣.
إن إسرائيل تعربد بأمان في المسجد الأقصى، وعندما يعلن أحد فاشييها عن بناء كنيس في مسجدنا الأقصى الذي قد يتحول إلى أثر بعد عين في مستقبل منظور في تحدٍّ لمليار ونصف المليار مسلم، إلا وهي تعرف معدننا الصدئ، وسوء أحوالنا، وهواننا، وكلما سمِعت عن خطوطنا الحمراء وبياناتنا التي لا تنقذ الأقصى، والأقرب المحصورة في الغيرة الكذابة على المسجد الأقصى وحده، ازدرتنا وزادت تطرفًا، لأنها تعي أننا نمور من ورق وألسن بدون أفعال، ونبرئ ذممنا بجميل القول. لنسأل أنفسنا كم ثريًا عربيًا، وكم دولة عربية بذلوا المال والمال فقط للحيلولة دون تهويد القدس العربية المحتلة والضفة؟ وكم دولة احتجت لدى الإدارة الأمريكية على انتهاكات إسرائيل للمقدسات الإسلامية والمسيحية المقدسية؟
نقل ترامب سفارة بلاده إلى القدس الغربية المحتلة، وهو خالٍ من هم رد الفعل العربي، وصمتنا لأننا كنا دائمًا نلوذ بوهم الإجماع العربي كعاصم من هذه الجريمة الأمريكية، ومر الأمر بسلام، بل نقلنا وقائع الفرحة الصهيونية وخطاب النصر للصهيوني جاريد كوشنر، زوج بنت الرئيس ترامب، وكأن ما كان يحدث كان في مكان مجهول في مغارة بجبال الهيمالايا.
إن اقتلاع الوجود الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه ماديًا وروحيًا، استراتيجية صهيونية مثابرة وصبورة تدفع من أجلها إسرائيل والأثرياء الصهاينة أغلى الأثمان، ابتداء من روتشيلد قبل قيام دولة الإبادة عام ١٩٤٨، وليس انتهاء بموسكوفيتش، في مقابل بخل عربي لم يسجل التاريخ في صفحاته عارًا كعاره.
تمنع دولة الإبادة منح تراخيص بناء مساكن للمقدسيين على وجه الخصوص، وتقدم إغراءت كبيرة جدًا لمن يبيع بيته من الفلسطينيين في القدس العربية المحتلة، بثمن لا يحلم به، مع منحه وعائلته إقامة، ثم جنسية في الولايات المتحدة، العدو غير المعلن لقضية فلسطين وللأمة العربية. وبالمقابل لا يهُب ثري عربي يؤدي الفروض الخمسة، وربما لا تترك المسبحة يديه، لنجدة القدس ومقدسييها.
القدس في مفترق طرق كما هو حال أمتنا الثرية -البخيلة الفاقدة للعزيمة، والصامتة عن كل هزيمة. واليوم القدس، وغدًا أولى القبلتين، ثم ثانيتهما، فالأزهر الشريف ودفاتر حساب دولة الإبادة والتوسع مفتوحة، لأنها تعيش أبدًا حرب وجود ليس مع الفلسطينيين وحدهم، بل مع كل العرب والمسلمين، بينما نحن مستمرون في عد أرقام الثروة التي نتوهم أنها طوق نجاة وطريق مسلوك للخلود.
لماذا يتخلى العرب عن مسؤولياتهم اليوم؟ ليس لدى أحد رد شافٍ أو مجس لاكتشاف حكمتهم أو قادر على سبر أغوارهم.