كان واضحًا منذ البداية أن عملية الفساد والتدمير والتجزئة التي ربما تمت هندستهما بعناية فائقة لا بد أن يكون خلفها أمر جلل، لكن أحدًا لم يكن يدرك بوضوح في البداية أن خلف كل ذلك وجود نوايا خارجية بإعادة عائلة الرئيس الراحل علي عفاش للسلطة في اليمن من جديد بعد ثورتين سلميتين قامتا عليه وأخرى مسلحة.
الواضح أنه لكي يعيدوا اليمن إلى نقطة الصفر، أي إلى أحضان عائلة عفاش، كان عليهم إعادتها أولًا إلى أزمنة سحيقة من الصراع والفساد والظلم والجور، وذلك عبر أدوات ونخب فاشلة تم ترتيبها بعناية من الجنوب إلى الشمال إلى الشرق إلى الغرب، وخلق حالة من إضعاف الكيان اليمني، وإيصال الأمور إلى درجة معقدة على كافة الأصعدة، فضلًا عن محاربة كل دعوات وحركات الإصلاح والتصحيح، على الأقل في عدن وفي المناطق المحررة، بعد ذلك يأتي الدور للترويج للمنقذ الرمز، وهو ما بدا واضحًا منذ المطالبة بإلغاء العقوبات ورفعها عن الفندم أحمد عفاش، يبدو هذا العمل على درجة من الإتقان، لا سيما في وسط شعبي محتقن وصل إلى درجة كبيرة من الإحباط قد تدفعه للقبول بالجني الأغبر ليس إلا.
يقول كثيرون إن أحمد عفاش الشخص المتواضع سياسيًا ومعرفيًا، لا يمكن بناء عملية الرهان عليه بأي شكل من الأشكال، فهو ذاك الشخص المثقل بالثارات السياسية والاجتماعية مع اليمنيين جنوبًا وشمالًا، منذ تولى والده الحكم قبل ثلاثة عقود ونيف، وهو ذاك الشخص الذي قيل عنه إنه لم يفلح في قيادة الحرس الجمهوري حينما كان في أوج قوته، ويومها قيل إنه كان يسند مهام قيادة الحرس لقائد الأركان عبدالرقيب الصبيحي، بينما يتفرغ هو للنوم حتى الظهيرة، ثم تناول القات حتى وقت متأخر من الليل.
لسنا ضد أحمد علي، ولا عداوات شخصية معه بالمطلق، ولكن أن يتم تدمير وتخريب بلد وإيصاله إلى الحضيض انتقامًا من ثورة الشعب السلمية، ثم من أجل إعادة عائلة عفاش للسلطة من جديد، فهذا أمر جلل وخطير جدًا يجعل دولًا خارجية في دائرة الاتهام المباشر من قبل اليمنين بأنها ضالعة في تدمير وتخريب بلدهم من أجل سواد عيون عائلة عفاش التي أصلًا كانت سببًا جوهريًا وأساسيًا في ما وصل إليه البلد والشعب.
رغم جمود المشهد اليمني حاليًا، إلا أن هناك -كما يبدو- تحولات قادمة تلوح في الأفق، التصحيح أصبح أمرًا ضروريًا في اليمن، لا سيما داخل السلطة الشرعية والمناطق والمدن المحررة، من غير المنطقي أن تستمر الشرعية ترفل في الفساد والفوضى لتوفر مزيدًا من المبررات لإعادة عائلة عفاش للسلطة كمنقذ، بينما المعروف أنه لا يمكن البتة أن تستقيم عملية التصحيح عبر عائلة عفاش، كل ما في الأمر أن هناك قوى إقليمية ودولية تريد الاستمرار في نهب الثروات والسيطرة على الجزر والموانئ الهامة في البلاد، وبالتالي ترى في عائلة عفاش الورقة الرابحة لمواصلة هذا المسلسل الخطير، أما في ما يتعلق بالمستوى الاقتصادي والمعيشي للشعب، حيث تم شحن الناس اليوم عاطفيًا بأن عفاش هو المنقذ، فإنه لن يتحسن كثيرًا، وفي أحسن الأحوال لن يتجاوز خانة المسكنات المؤقتة.
صحيح اليمن بحاجة لمعجزة اليوم لتصحيح المسار، ولإعادة انتشالها من الوضع القائم الذي أوصلتنا إليه مؤامرات خارجية وخيانات داخلية، لكن مطلقًا لن يكون ذلك عبر عائلة عفاش التي كانت سببًا عظيمًا وجللًا في ما وصل إليه البلد، مع أن الأمل مايزال موجودًا في الله وحده ببروز شخصيات وقوى جديدة في المشهد تضع حدًا لهذا الانهيار، وتعيد ترتيب الأمور في مسارها الوطني الصحيح، إما تسوية قائمة على العدل وبناء الدولة الوطنية التي تلبي تطلعات كل اليمنيين بعيدًا عن الإقصاء والدجل والخرافات، أو عملية تحرير واسعة حتى الوصول إلى قلب العاصمة صنعاء.
أيها الشعب النبيل والعظيم وأنت تتعرض لهذا الظلم وهذا الانتقام الشديد، فعليك ألا تيأس، فقد قال شاعرك المخضرم ومتنبي عصره عبدالله البردوني، ذات عام مضى: "ومن بطون المآسي يولد الأمل".
ندرك تمامًا أن هناك خلية كبيرة تعمل ضد ثورات اليمنيين، وضد تطلعاتهم المشروعة في بناء بلدهم، وهذه الخلية سميت في بداية الأمر خلية الثورة المضادة تتخذ من إحدى عواصم الدول الخارجية مقرًا لها، وفيها شخصيات كبيرة عربية ويمنية، بينهم محمد دحلان عميل الموساد، وكذا فيها من اليمن عمار وطارق صالح، وللعلم وكما هو واضح فإن هذه الخلية ماتزال تواصل عملها ضد كل الرموز اليمنية الوطنية، سواء أكانت من الشباب أو غيرها، وتتغير مهامها حسب الحاجة، وتعتقد أنها الآن وصلت إلى النقطة التي تريدها، وهي إعادة عائلة عفاش للسلطة عبر أحمد علي الذي يتم جلبه حاليًا من الأرشيف.
لقد أطلق أحدهم على هذه الخلية خلية "الدجل والأوهام والسحر والشعوذة والتخريب"، ومهما كان الدعم الذي تحصل عليه إقليميًا ودوليًا، إلا أنها سوف تفشل، وما يحدث وحدث لليمن هو مؤامرة، لكنها في الواقع عملية تحول كبيرة ودرس عظيم وتجربة بحاجة لإعادة تقييم كبيرة ومنطقية منذ فبراير 2011 مرورًا بيوليو 2015 وحتى اليوم، التعالي على هذا الواقع والاستمرار في الدعممة دون تقييم وخطط وقرار وطني مستقل، بكل تأكيد يقود البلد صوب المجهول، وعلينا بعد ذلك انتظار مقادير الله حينما تفشل حيل البشر وعقولهم عن الإنتاج.
كل الأحزاب في ما بينهم المجلس الانتقالي بحاجة لإعادة تقييم التجربة بصورة سريعة وموضوعية إن أرادوا أن يكونوا جزءًا من المشهد القادم، في الوقت الذي تشير المؤشرات إلى أن الدفع بعائلة عفاش للسلطة في المناطق المحررة يعني إقصاء الأحزاب والانتقالي وكل الرموز والشخصيات التي جاءت بها الثورات جنوبًا وشمالًا، عوضًا عن أنه سيتم وعبر قبضة من حديد الانتقام منهم وتشريدهم بكل مكان، وبدء مرحلة جديدة أسوأ مما نحن فيه.
إعادة تقييم التجربة أمر مهم جدًا حتى لا تستمر هذه القوى في نفس الأخطاء التي تهدد وجودها السياسي والطبيعي في ظل حالة استقطاب قوية وحادة تجري في اليمن كله، في الوقت الذي يتم منح الحوثي كل الرهانات ليبقى الحصان الأقوى بعلم وربما تواطؤ دول التحالف أيضًا، وليس أمريكا وإيران فقط، وهنا يكمن الخطر الذي علينا التنبه له إن أردنا دولة لكل الناس تنشد الأمن والعدالة والمواطنة والحرية.
لا خيار أمامنا إلا الاستمرار في المعركة من أجل البلد وكل الأشياء الجميلة مهما كانت التحديات والصعوبات والإمكانات، فالكلمة لوحدها كفيلة بفعل الكثير اليوم، وكي لا نعود لنقطة الصفر لا بد من التكاتف لتصحيح الأوضاع أولًا، وثانيًا البدء بعملية بناء حقيقية تنطلق من عدن.
الأمل كبير، والله لن يترك هذا البلد، ولن يتركنا كرجال صادقين، فهو معنا، وما حدث تدبير من الله، ومن داخل كل محنة ستولد المنح الجميلة للأرض الطيبة.