مدخل:
حين يصير التهافت وراء المستجدات على الساحة الدولية، مجرد تهافت التهافت أو مجرد نوع من اللهث كتعبير عن الحضور والبقاء داخل كادر الأحداث، فذلك نوع من العبث والتعبير عن الحضور الفاعل المسهم في صناعة الحدث، وتلك -والحق ينبغي أن يقال- صورة محزنة لما آل إليه حالنا العربي الهائم الضائع، ويجد ضالته وهو يقف أول طابور المصفقين لحدث جلل صار هنا، وإنجاز تجاوز تعقيد واقع كانوا يرون استحالة تجاوزه. ولأنا معشر العرب بتنا في عالمنا المعاصر مجرد من يفرح لنزول المطر أو لحدوث إنجاز نجد في بعض فقراته تحقيق بعض أحلام لنا كنا نود أن تتحقق، متناسين أن الأشياء الكبيرة لا تحققها الأحلام والدعوات الطيبة، بل تتحقق عبر إنجازات يسهم بها العقل السليم، وتراكم الخبرات التي تضيف للحضارة، وهو ما عجزنا عن الإتيان به، نحن مجرد طفيليين مستهلكين.
كاتب من إحدى الدول الخليجية تعرض للإيذاء لأنه نطق بالحقيقة قائلًا: لم نقدم شيئًا... لم نضف للحضارة للإنسانية شيئًا به نفاخر. هبة النفط التي من ريعها نرفع الخشم عاليًا تمامًا كما نطوق عنق الناقة بسلاسل من نادرات الجواهر وغالي الذهب عياره من ذاك الذي يزغلل الأعين، لكنه لا يستثير فحولة البعير أينما تقوده قيادة عمياء بعيدًا من واحة قرطبة ابن رشد، حيث العقل كان منجزًا مسهمًا بصنع حضارة الإنسان، لتصل بنا رحلة التيه والضياع، حيث تم أسر عقولنا وإدخالها معتقل المغول لتنشغل بحرف حتى وهل هو منصوب أم مجزوم، وأهمية تفسير ذلك، ومن بعدها توالت النكبات سواء يوم رحل ابن خلدون، فقد تركنا تراثه وفكره لغيرنا حوله لعلم اجتماع إنساني حسب المراحل، وما يعتمل بداخلها من صراع المصالح العامة والخاصة، وعدنا ننهل ما يقوله لنا الآخر عن إنجاز لنا، وقتلنا الزهو والفرح، ونحن له مستوردون لما كان أولى به استيعابًا لما قاله ابن خلدون، لكنا سرنا عكس ما قال وذكر.
ومن يوم رحل أبو العلاء، وفارقنا البردوني والجواهري، اكتفينا بالقول المأثور: وما لذة العيش إلا بالتنقل... بالمعنى الشامل... إلا بالتنقل بين الأسواق... جاء النفط وألغى العقل... الوجود... المفكر... وبرزت الأنا الممتلئة شبقًا لاقتناء ما ينتجه وما يصنعه الآخر... هو يفكر ويبتكر، ونحن تحت يافطة أنبوب النفط والعقال والإبل السيار مغرورون بالمال المدولر... أنا الأعلون... نغدق.. نبني ناطحات السحاب... لم يكن ثمة مسمار مما صنعت أيادينا أسهمنا به في تلك الناطحات.
لا شك هناك مآثر تستحق منا التحية والإكبار، عنوانها على النحو التالي:
اجتياح خط بارليف كان إنجازًا عبقريًا سجله التاريخ، كان عودة للعقلية العربية التي هزمت لعبة صهيونية تعمدت وصف العقل العربي بالتخلف والعجز، بل الرقود تحت وسائد الخرافة.
الثانية إعجاز طوفان الأقصى إنجاز رائع من النوع الرفيع، أهان ومرغ بالتراب والهزيمة عقلية رأسمالية الاحتكار الكوني للإمبريالية الصهيونية المحتكرة حصرًا للمعرفة. طوفان غزة إعجاز نفاخر به العالم، لأنه أعاد ترسيم معالم الوجود.
إعجاز ثورة المليون شهيد الجزائرية التي أدركت معها قوى الاستعمار الحديث مكامن القوة لدى الشعوب لتصاغ بعدها إنجازات مانديلا وجيفارا وهو شي منه.
للأسف نقول:
نفطنا كان عبر المراحل أداة الغير لاستعمارنا ثقافيًا واستهلاكيًا، لذا احتفظوا بمفاتيحه، وتقاسموا مناطق وجوده، ورسموا حدود عولمتهم مرة من هونج مرة مرورًا بسنغافورة مرة كانت يتيمة، ولغرض بنفس يعقوب، أتى دور جبل علي بمشيخة الإمارات ومرة، وكانت ولاتزال الأخطر، وتهدف لتطويق طريق الحرير.
لذا لا غرابة حين ترانا نفرح حتى الثمالة إن وجدنا الحراك داخل المجتمعات الغربية، بخاصة ما جرى في بريطانيا وفرنسا من تغيرات لم تكتمل نتيجتها النهائية بعد... نرى البعض أو لنقل الغالبية ترى فيها إنجازًا حقق ما عجزنا عن تحقيقه، نفرح لأن حزب العمال البريطاني مرغ بالتراب وجه ريتشي سوناك المتصهين، تبعه على جناح السرعة السقوط المريع تحت ضربات وحدة اليسار في فرنسا القوية، وفي زوايا ظلمة التاريخ سيتوارى وجه ماكرون اليميني المراوغ لم يستسلم بعد، لكن سيتحول لعجينة معكرونة من النوع الرديء، فالمعكرونة أصلًا طبق إيطالي من إنتاج جرامشي صاحب نظرية اصطفاف الكتلة التاريخية التي مضى على هداها ائتلاف اليسار الفرنسي. والسؤال: لمَ نصفق لما يحققه غيرنا، به نحتفي وله نغني، لكننا على واقعنا لا نفعل شيئًا سوى تبادل الاتهامات، والارتماء في أحضان الغير. ذلك هو السؤال المهم. والقادم آتٍ لأن هناك شعوبًا وقوى تفكر، عقلها ليس بعد طريح الفراش أبدًا لا يكيل المدح والثناء وتنميق الكلام لما أنجزه الآخرون، إنما يفكرون بعمق لما نحن نفشل في ما ينجح فيه غيرنا!
وليطل على السؤال:
نحن العرب على مستوى النخب، ماذا أضفنا للإنسانية؟ ما أنتجنا جديدًا غير الصراعات وتبادل الاتهامات!
لا بأس نستفيد ندرس... لماذا نجحوا وأين أخفقنا، تلك المسألة الأهم... تحية لغزة وطوفان أقصاها لأنها أيقظت العالم، لكن عالمها العربي مازال هائمًا يثير الزوابع حول ما إذا كانت خطوتنا القادمة لدعم حصار وتجويع غزة نبدأ الخطوة الأولى منها هل باليمين أم بالشمال؟ ألم أقل لكم كم هو صعب واقعنا، وتجاوزه له متطلبات لا تفي بها مجلدات من البحث والتحضير؟!