الحلقة الأولى
للشعر اهتمام كبير، بل مكانة عالية ومرموقة في ربوع أرض المشقاص مديرية الريدة وقصيعر ساحل حضرموت. وهذا الاهتمام يظهر جليًا في حب سكان هذه المنطقة للشعر، ومن اهتمام الناس بالشعر في هذه الأرض، فلا تتعجب إن رأيت الأطفال شغوفين ومهتمين بالشعر، فقد رأوا وشاهدوا من سبقهم ممن يهيمون حبًا بالشعر، فانعكس هذا الاهتمام والحب على الصغار، وما كان لهذا الشيء أن يحصل لولا أن الله وهب المشقاص دون غيرها من المناطق بشعراء كبار، فاستمر تدفق عمالقة الشعر في المشقاص جيلًا بعد جيل.
ما تقدم أعتبره كمدخل بسيط لما أنوي الحديث عنه، وهو ما اتخذناه من عنوان أعلاه "إبداعات الشعر المشقاصي"، وهذه المرة مخصصة للشاعرين الكبيرين سالم بن عمرو الغرابي، الملقب بالعكر، والشاعر سعيد سالم بلكديش، وسأحاول جاهدًا في المستقبل إظهار شيء مما يدار في جلسات وحلبات الشعر التي يلتقي فيها عمالقة الشعر المشقاصي، خصوصًا هذين الشاعرين (العكر وبلكديش)، ولا أبالغ كثيرًا لو قلت إنهما من أثرى الساحة الشعرية بالإبداعات الشعرية المكتملة الجمال والحاملة للمعاني والمقاصد الكثيرة التي دومًا تلاقي الشغف والمتابعة الكبيرة من متلقي ومتذوقي الشعر الحقيقيين.
وهنا سآتي بما جمعهم مع بعض الشعراء في إحدى الجلسات في زواج أحد الإخوة بمدينة الريدة الشرقية، في 24/7/2015م، أي ما يقارب عقدًا من الزمن.
وكانت البداية في هذه الجلسة للشاعر العكر الذي دخل (دغري) أي دونما أن يجعل المتلقي في بحث وجهد لمعرفة ما قاله، فكان دخوله في الصميم ولم يتعب نفسه بالمقدمة أو التمهيد، بل إنه كان واضحًا في رأيه الشخصي ورأي كثير من الناس في تلك الفترة، وهي فترة دخول دول التحالف في حرب اليمن كمنقذين للشرعية والشعب اليمني مما حل به.
فنسمع ما قاله، ولنا ولكم التعليق بعد الاستماع:
خليفة قام بالواجب
والملك سلمان ما هو مقصر
وإن شي معاكم هرج ثاني
عاد العصا فالسارية مسنود
بداية قوية بها من التهديد والوعيد، بل إنها تنم عن صرامة واستعاد تام من هذه الدول، أي دول التحالف، لإغلاق كل المشاريع الصغيرة التي بدأت بالظهور على الساحة.
لكن لا بد لنا من قول ورد، وهو أن خليفة والملك سلمان لم يقوما بالواجب كما اعتقدت وظننت، ونحن مثلك بهما عزيزي الشاعر العكر، والواقع يؤكد ذلك، فها نحن في أسوأ أحوالنا.
تعالوا نسمع رد الشاعر بلكديش الذي حتمًا سيكون رده نقيضًا ومغايرًا، بل معاكسًا تمامًا للعكر وما قاله من كلام:
معانا حق ومطالب
والعلم مرفوع في كل بندر
والأرض معنا والمباني
لي صاحبك منها خرج مطرود
هذا هو رد بلكديش كما توقعناه مسبقًا.
فنرى رد وجواب العكر القادم الذي يحمل في طياته أكثر من معنى، بل إنه تنبأ فيه بما قد يحصل مستقبلًا، وهو تنبؤ صادم إن صح التعبير. فلنسمع:
تغير مطلع الكواكب
والزمن كله مناخه تغير
والهرج لي ما له معاني
يا صاحبي ما يشفي المارود
فبعد هذه الجلسة صدقت تنبؤات الشاعر العكر، وحصل التغير في المناخ، وأتت الأعاصير ذات المسميات العديدة، وآخرها إعصار تيج المدمر الذي مازال كثير من الناس يعانون من آثاره وما خلفه من خراب للبيوت.
وبالعودة لتفنيد باقي قصيدة العكر، فهي في شطريها الأخيرين تحمل الجواب على قصيدة الشاعر بلكديش، أي قوله "والهرج لي ماله معاني/ يا صاحبي ما يشفي المارود"، والشطران الأولان كما عرفنا بهما ما تنبأ به الشاعر، وأصبح حقيقة.
وهنا نكتفي بهذه القصائد على قلتها، إلا أن بها كمًا هائلًا من الإيحاءات والمضامين الشعرية البليغة. تلك المضامين آلتي جعلت الكثير يغوص أكثر في ثناياها لمعرفته ما فيها، وما تتبع الناس وترديدهم لهذه القصائد منذ ظهورها وحتى اللحظة، إلا دليل كافٍ على أنها من إبداعات هذين الشاعرين الكبيرين: العكر بلكديش.
كمتابع لنتاجات الشاعر العكر على كثرتها أعترف بعدم تكمني من الإحاطة حتى بنسبة خمسة بالمائة من شعره، لكن ما أعرفه وقد يعرفه الكثير مثلي أن مسألة التنبؤ وتوقع حصول أشياء قبل وقوعها في شعر العكر، قد بانت لي شخصيًا، فذات مرة تحديدًا نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أتى الشاعر العكر كمشارك في إحدى الزواجات، وأتى معه مجموعة من الناس ودخل بصف ولقنهم قصيدة، كانت هذه القصيدة تتحدث عن حدث غير سار في ذلك الزواج، وما هي إلا فترة قليلة أي دقائق معدودات وهي فترة معرفة الحاضرين لتفاصيل القصيدة، حتى أتت رصاصة طائشة وأودت بحياة شخص، وتفرقت الناس وعم الحزن ذلك الزواج.
ومن يكلف نفسه أكثر بالبحث في أشعار العكر سيلاقي أشياء كثيرة امتاز وتفرد بها هذا الشاعر عن غيره من الشعراء.
وما تبقى من قول هو أنني أكرر ما قلته في مقال سابق لعل وعسى أن هذا التكرار يلاقي استجابة هذه المرة:
يا أصحاب الشأن ويا من صدعتم رؤوسنا كمحبين ومهتمين بالشعر، تكرموا بتكريم الشاعر العكر، مع أنه في غنى تام عن هذا التكريم الذي حتى وإن أتى فلن يأتي إلا بالصياح والمناشدات المتتالية.
العكر لا يستجدي أحدًا، وتكريمه الحقيقي يتمثل في محبة الناس له ممن يتابعون شعره، ويعرفون قيمته الكبيرة كشاعر كبير كان ومازال لسان حالهم في الأفراح والأتراح، وناقل معاناتهم بشعره العذب الرقراق.
لكن من باب الذوق والواجب المفروض عليكم، ومن عطاءات الرجل التي تحتم عليكم تكريمه التكريم الذي يليق به كشاعر تنوعت عطاءاته الشعرية واللحنية الممتدة لعقود من الزمن.
فهل نرى ما انتظرناه طويلًا، وبحت أصواتنا من أجله، وهو التكريم ولا غيره؟