في صبانا المبكر من طفولتنا الجميلة في الشيخ عثمان، كان كشك المرحوم عبد الله إسماعيل الشيباني، لذكراه الخلود، يقف شامخًا داخل كشك مبيعات الثقافة وسائر المعارف (صورة للكشك). يبتسم برضا لطابورنا الأسبوعي أمام كشكه للحصول على مجلة الأطفال "سمير" الصادرة عن دار الهلال المصرية الشهيرة. يبتسم بعد فكه لرزمة المجلات، وتظهر سنته الذهبية لتتلألأ على ضياء شمس الضحى، ويقول: "يالله يا عيال، في الطابور بنظام". وكان طابورنا راقيًا ومنظمًا وجميلاً كجمال مدينتنا التي كانت تحف بطرقاتها وشوارعها والحوافي فيها الأشجار الوارفة، يانعة الأغصان، نظرة الأوراق كنسمات الندى.
كانت الطرقات والشوارع نظيفة بما يليق بمدينة بسيطة حتى ولو كانت تتبع سلطة الضواحي في زمن حكم السير توم هيكنبوثام، الحاكم البريطاني! أموت لو فاتني أسبوع لا أحصل فيه على مجلة سمير، التي تلتها بعد ذلك مجلة ميكي من نفس الدار وإلى نفس كشك الشيباني. قد ذكرت في منشور سابق حكايتي مع طابور سمير وخطف مجنون عابر للمجلة مني في مقهاية شاي الجريك. واستعادتها وجريه خلفي وأنا أجري خائفًا منه وبكل ما في الطفولة من رعب، إلى أن وصلت إلى كشك الشيباني ودخلته من تحت بسطة الصحف وحماني أولاده من جنون المجنون! بعدها وعدني الشيباني بحجز نسختي الأسبوعية من سمير، وكان ذلك أكبر انتصاراتي! لكن كيف تمكن مني المجنون.. ولا بأس من الاستفاضة والتكرار!
حين انتصرت في الحصول على المجلة، كافأت نفسي بالجلوس في مقهاية الجريك الأشهر في الشيخ عثمان. وطلبت فنجان شاي عدني ملبن ودبل. الدبل كان بعانتين والسنجل كان بعانة ومجلة سمير كانت بنصف شلن!
على الجانب المقابل للطاولة كان أحد قبائل شبوة المعروفين، واسمه عبد الرب حنتش، يدخن سيجارة بغير فلتر اسمها سينيور سيرفيس. كانت سجائر الفلتر وقتها لم تظهر بعد. وكان حنتش قد ترك تدخين نارجيلة الرشبة واتجه إلى السجائر التي كان يدخنها بطريقة احترافية مبتكرة. يضع الواحدة بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويكور كفه ومن ناحية قبضة الإبهام يقرب كفه من فمه ويجر دخان سيجارة السينيور سيرفيس غير المفلترة بفلترتها آدميًا بتلك الحيلة المدهشة. ويتحدث.. وحين يكثر رماد السيجارة يقوم بحركة مذهلة وأشد ابتكارًا. يطرقع بإصبعه الوسطى مع إصبع الإبهام بخفة مع هزة خفيفة ينفل بها رماد السيجارة المنكاثر. ويتحدث:
حكى لي أنه في زمن سابق غابر قد اشتغل في تجارة العبيد! مع أن العبودية قد منعت قانونًا، لكنهم فقط أسقطوا عنها المعنى وأبقوا على المضمون. اشترك مع ثري آخر من قبيلة أخرى في تجميع الناس الباحثين عن العمل في زمن الفقر والفاقة الذي كان. ولا يعييهم البحث كثيرًا فما كان أكثر الباحثين عن لقمة عيش وعمل وأي عمل! كانوا ينتقون أصحاب البشرة السمراء بالذات، وكلما كان سوادهم أكثر كان نصيبهم في العمل أكبر! يجمعونهم ويشحنونهم في لوريات نقل إلى بلاد الحجاز. ويستلمهم هناك وكيل يعرفونه يشتريهم ويدفع لحنتش وشريكه قيمة الصفقة بالمراسلة. ويكون الله مع شحنة السمر البشرة هناك. يعملون تحت أي اسم ومع أي مشتر. المهم أنهم يحصلون على لقمة عيشهم والعمل الذي يكلفون به.
وفي خضم انهماكي مع حكاية حنتش، وكنت قد وضعت مجلة سمير على ميز الشاي، غافلني المجنون وخطف مجلة سمير وحاول الهرب. لكني خضت معركة تحد معه واستعدت المجلة. وابتعدت قليلاً لكن المجنون لحق بي في استماتة عظيمة، جريت في فزع مبتعدًا منه لكنه لحق بي، ووصل جريي إلى كشك الشيباني الذي كان على بعد أمتار من مقهاية الجريك. وتم خلاصي على يد الشيباني وعياله. وفزت بنسخة الأسبوع من مجلة سمير العزيزة.
وتوتة توتة توتة، توتة خلصت الحدوتة.