فيما كان الطفل عبدالفتاح فكري (7 أعوام) يستعد لعيد الفطر الفائت، ويشتري بقية مستلزماته رفقة والده في أحد شوارع حي الضباب، بضواحي مدينة تعز، انقض عليه كلب ضال، مخلفا جرحًا لا ينسى وذكرى مؤلمة لا تليق بطقوس العيد.
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها في تعز، ولن تكون الأخيرة في المدينة التي تشهد انتشارًا مرعبًا وغير مسبوق للكلاب الضالة والمحتمل إصابتها بداء الكلب.
الواقعة تسلط الضوء على مشكلة متفاقمة تهدد سلامة الأطفال والمواطنين، وتكشف عن نقص حاد في الإمكانيات الطبية والوقائية وأدوات المكافحة والمواجهة. ففي المستشفى اليمني السويدي، حيث نقل عبدالفتاح للعلاج، برز تحدٍّ كبير أمام الأطباء والمرضى على حد سواء، في مواجهة الخطر القادم من أنياب الكلاب، يتمثل في عدم توفر الدواء اللازم لهذا المرض القاتل.
ومع الحاجة الماسة للقاحات داء الكلب، والتي تتطلب جرعات متعددة لضمان الوقاية، يجد الأهالي أنفسهم في رحلة بحث مضنية عن الأمصال الناقصة، في ظل شح الموارد وغياب الدعم.
حصل والد عبدالفتاح على مصل واحد فقط لطفله من المركز الحكومي، بينما يجب أن يتلقى خمس جرعات للوقاية والشفاء. لجأ الوالد المفجوع إلى إحدى الجمعيات الخيرية في المدينة التي تقدم مساعدات من هذا النوع، لكنه وجدها مغلقة لإجازة العيد، اضطر بعدها لشراء الأمصال من الصيدليات التجارية، وبمبلغ تجاوز الـ150 ألف ريال، وهي كل مدخراته التي كانت مخصصة لمواجهة متطلبات العيد الذي لم يكن سعيدًا على الإطلاق، وفقًا لحديث فكري عبدالرشيد لـ"النداء".
أرقام مرعبة
عدا الطفل عبدالرحمن، تعرضت نسيم محمد (25 عامًا) وأمين ناصر (60 عامًا)، و167 شخصًا آخرون، لعضات الكلاب الضالة في مدينة تعز، خلال الربع الأول من العام الحالي، وفقًا للبيانات التي حصلت عليها "النداء" من المستشفى اليمني السويدي. وهو المركز الوحيد لاستقبال المصابين بعضات الكلاب الضالة والمسعورة في المدينة المكتظة بالسكان والكلاب المشردة.
وبحسب البيانات فقد وتوزعت عضات الكلاب على القدمين واليدين والوجه والفخذ والساق والظهر. ومن بين 170 كلبًا ممن هاجموا الضحايا خلال الربع الأول من العام الحالي، قتل 12 كلبًا فقط، فيما 66 منها قيد المراقبة، بينما لايزال 92 كلبًا شاردًا يعد أنيابه لمهاجمة ضحايا جدد.
الأرقام مرعبة، وتشير إلى وقائع خطرة تتكرر بشكل يومي في المدينة التي تنوعت فيها مصادر الخوف، وتعددت مسببات الموت. ومع ذلك، يؤكد برنامج داء الكلب في تعز، أن الرقم الحقيقي في الواقع يتجاوز ما هو معلن. وبحسب منسق البرنامج عامر البوصي، فإن الكثير من الحالات لا تصل إلى المركز لافتقاره للأمصال، وبالتالي لا يتم تسجيلها.
ويقول البوصي، في حديثه لـ"النداء": تصلنا إلى البرنامج يوميًا ما بين 5 و10 حالات عض من الكلاب الضالة في تعز، وهذا رقم مخيف، يعكس الانتشار الكبير للكلاب في المدينة.
وأمام هذه الأعداد المتزايدة من المصابين، يضيف البوصي أن اللقاحات التي يحصل عليها البرنامج من وزارة الصحة، تتراوح بين 100 و200 سنويًا. "هذه الكمية لا تغطي احتياجات شهر أو شهرين في أفضل الحالات، ونضطر في كثير من الأوقات للاعتذار من المصاب وأسرته الذين قطع بعضهم مسافات طويلة ليصل إلينا على أمل الحصول على اللقاح، ونستعين في كثير من الأحيان بجمعية هائل سعيد الخيرية، التي تقف معنا في تقديم بعض اللقاحات".
يحمل البوصي وزارة الصحة مسؤولية عدم توفير اللقاحات الكافية، ويتهمها بإهمال برنامج داء الكلب، على الرغم من خطورة الآثار المترتبة على ذلك، ويقول: "نعمل في برنامج داء الكلب منذ سنوات عديدة بلا دعم رسمي ولا موازنات أو نفقات تشغيلية، وكل عام نضع خططًا واستراتيجيات، لكننا نصطدم بغياب التمويل اللازم للتنفيذ".
ويضيف: "وزارة الصحة كل همها مطالبتنا برفع الإحصائيات عن المصابين، لكن عند مطالبتهم بالاهتمام ببرنامج داء الكلب، يردون علينا باعتذارات مكررة، ويجب أن يتغير الأمر، وأن يتم حشد الجهود للبحث عن التمويلات اللازمة لبرنامج داء الكلب، ومعاملته كبقية البرامج المدعومة، كونه لا يقل خطورة عنها".
داء الكلب مرض خطير، يهدد الجميع في كل وقت، وليس له موسم محدد للانتشار، هو مرض فيروسي نخاعي يصيب الجسم بالشلل التام، ويؤدي إلى الوفاة إن لم يتم تداركه وعلاجه، ومع ذلك يعد برنامج داء الكلب من البرامج المهملة وفقًا للتوصيف الخاص بالبرامج التابعة لوزارة الصحة، وهو ما يثير حفيظة منسق البرنامج في تعز الذي لا يجد تفسيرًا لذلك: لا أدري لماذا يسمونه هكذا، ربما لأنه لا يحصل على دعم من المانحين، كبرنامج شلل الأطفال أو برنامج الحصبة أو غيرها من البرامج الممولة".
يتحدث البوصى بحرقة عن إهمال برنامج داء الكلب، وعن التساهل إزاء ظاهرة انتشار الكلاب الضالة التي باتت تهدد المدينة وسكانها صحيًا وبيئيًا واجتماعيًا وسياحيًا. "الكلاب باتت تحيط بنا في كل مكان، داخل الأحياء والشوارع، وأمام المطاعم والمحال التجارية والمدارس والمستشفيات، وحتى أسواق القات، وفي كل تجمع بشري، وهذا الأمر يجعل الجميع عرضة للخطر، بخاصة ونحن مقبلون على العام الدراسي، ويجب أن نستشعر المخاطر التي تهدد أبناءنا الطلاب".
تقاعس
يحذر الدكتور سامي الشرعبي، مدير المستشفى اليمني السويدي، من خطورة انتشار الكلاب الضالة والمشردة في مدينة تعز، والتي قال إنها باتت عدوانية أكثر من أي وقت مضى. ويقول: "الوضع في غاية الخطورة، ويتفاقم بشكل متسارع، والمعالجات تصبح أكثر صعوبة وتعقيدًا مع تزايد أعداد الكلاب الضالة والمسعورة في الشوارع والأحياء، ولا بد من وقفة جادة من قبل كل الجهات المعنية، لوضع حلول ومعالجات لهذا الأمر".
عدا الكلفة العالية للقاحات داء الكلب، يتحدث الشرعبي عن مشكلة أخرى متعلقة بمدى صلاحية اللقاحات التي تباع في الصيدليات التجارية. "نقدم اللقاحات مجانية، لكن ما هو متوفر لدى المركز أقل من عدد الحالات، وهذه مشكلة تدفع البعض للشراء من الصيدليات التجارية، ولدينا مخاوف من هذا الأمر في ما يتعلق بنوع الدواء، وهل هو مطابق للمواصفات. هذا أمر يحتاج إلى التحقق والمراقبة من قبل الأجهزة المعنية".
ويحمل الشرعبي في حديثه لـ"النداء" عددًا من الجهات الحكومية مسؤولية انتشار مرض داء الكلب في المدينة، ويقول إن هناك تقاعسًا في التخلص من الكلاب الشاردة، الأمر الذي جعلها تنتشر بصورة تدعو لقرع أجراس الخطر.
بلد المليون كلب
في مقدمة هذه الجهات يأتي صندوق النظافة والتحسين بمحافظة تعز، كونه المعني بالتخلص من الكلاب الضالة، وقبل ذلك هو المسؤول عن رفع القمامة والحيلولة دون تكدسها في شوارع وأحياء المدينة، على اعتبار أن مخلفات الطعام من أبرز أسباب انتشار وتزايد الكلاب الضالة.
تدرك المدير التنفيذي لصندوق النظافة والتحسين بتعز افتهان المشهري، خطورة انتشار الكلاب الضالة في المدينة، لكنها تشكو من معوقات كثيرة تحول دون قيام الصندوق بدوره على أكمل وجه.
وفي حديثها لـ"النداء" تقول المشهري إن الصندوق نفذ في يناير الفائت حملة للتخلص من الكلاب الضالة في مدينة تعز، واستمرت الحملة لمدة شهرين، قبل أن تتوقف خلال شهر رمضان. تم خلال الحملة قتل 1420 كلبًا وفقًا لإحصائية الصندوق، وهو رقم متواضع قياسًا بالأعداد الكبيرة للكلاب المنشرة في أحياء المدينة.
وتضيف أن كلفة سم الكلاب باهظة، وتصل قيمة العلبة الواحدة منه إلى 2000 دولار (نحو 3.4 مليون ريال)، ومحتكر لدى إحدى الشركات في صنعاء، ويتم الحصول عليه بصعوبة، وخلال حملة الشهرين وفر الصندوق علبتين فقط، لكن أعداد الكلاب تفوق ذلك بكثير. "الأعداد مهولة وفي ازدياد مضطرد، ونخاف أن يأتي اليوم الذي يطلق علينا بلد المليون كلب".
تقر المديرة التنفيذية لصندوق النظافة ببدائية طرق المكافحة: "مازلنا نكافح الكلاب بالطريقة التقليدية، من خلال وضع السم في اللحم". وعلى الرغم من خطورة رمي السم القاتل في الأحياء والطرق العامة، وما قد يتسبب به من أضرار بالغة على صحة بقية الكائنات، ومن بينها الإنسان، إلا أن الكلاب قد تتخلص من مفعوله في حال شربت الماء بعد تناوله مباشرة، وفقًا لتأكيد المشهري التي تقول أيضًا إن نوعية السم المستخدم في قتل الكلاب خطير جدًا وممنوع تداوله عالميًا إلا للضرورة القصوى وفي حالات محددة.
لا تقتصر الطرق التقليدية على قتل الكلاب وحسب، بل في التخلص منها أيضًا. حيث كان يتم جمع الكلاب النافقة ورميها في مقلب القمامة، لتتحلل هناك، الأمر الذي يتسبب بأضرار بيئية وصحية تطال الأرض والإنسان.
تعترف المشهري بأن تلك ممارسة خاطئة وخطيرة، وتقول إن الصندوق تدارك ذلك مؤخرًا، ويقوم حاليًا بدفن الكلاب النافقة في حفرة تحت الأرض، بالتنسيق مع مسؤولي البيئة بالمحافظة. ذلك ضمن خطط جديدة للتخلص من الكلاب تشمل أيضًا استيراد مسدسات خاصة بقتلها، باعتبارها طريقة آمنة تحتوي على إبر مسمومة تصيب الكلب مباشرة عند إطلاقها عليه عن بعد. وتربط المسؤولة الأولى عن صندوق النظافة بتعز بين استئناف حملة المكافحة وتوفير هذا النوع من المسدسات، الذي لم يتحدد موعده بعد.