التعليم العالي ومدشنو الحروب
* وليد البكس
حينما تستمع إلى هذا الرجل يتحدث؛ ستدرك أنه يمكن لهذا البلد أن يتحرك قليلا صوب النجاح؛ لكن الحقيقة تتجلى كلما تعمق صالح باصرة في أحاديثه، وبصورة أكثر واقعية لا يتوانى عن سرد المواقف التي تسير عليها وزارته على نحو مؤلم؛ وليس لتقصير في أداء الوزير الناجح؛ لكن هناك في تفاصيل مبطنة تراكم فيها عطن الفاسدين وتكاثروا بفعل توافق المصالح الصغيرة؛ حتى إنك حينما تصادف أحدهم في ردهات المبنى تشعر بفرط رقته وهو يتحرك وينظر إليك وكأنه سيقول لك أعمل في إدارة التقبيل إلحقني؛ ويزيد أن يصرخ في وجهك لتدرك أن الأمر مختلف تماما؛ لم يكن أكثر من مجرد صوت ناعم يأتي من مطبخ ربة بيت سيئة الصيت.
في الحقيقة لا تختلف هذه الوزارة كثيرا عن أخواتها المشوهات المتقرحات البغيضات؛ وحينما يكتفي الوزراء والمسؤولون الآخرون في معالجة فسادهم وفساد موظفيهم بالنظر فقط، ويواصلون إغراق هذا البلد في المجهول؛ لا تخلو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من العمليات الجراحية على الدوام، ومؤخرا تستغني الوزارة عن 6 من أصل 11 شخصاً شملهم التغيير في إدارة البعثات ورؤساء أقسام ومختصين اتضح أنهم -أي الستة- يعملون كلوبي مالي داخل الوزارة ومع بعض مسؤولي الملحقيات الثقافية التي يتم تعيينهم من قبل وزارة التعليم العالي.
في اجتماع لموظفي الوزارة يتحدث الوزير: "تماطلون في إنجاز معاملات الملحقيات التي هي في الأصل متعلقات مالية تخص مستحقات شهرية بالطلبة، وعُهد مالية لتلك الملحقيات، مع أنكم تسافرون إليها. وأنتم حينما تذهبون إلى الخارج يقيمون لكم العزائم ويدفعون حتى ثمن "البيبسي" وغير ذلك. تستلمون مقابل سفركم وتعودون تتحكمون بمصائر الناس". تحدث باصرة في ذلك الاجتماع، وأقل ما يمكن أن يوصف بأنه لقاء اضطراري توبيخي لتستغني عنهم الوزارة وتعاد ملفاتهم إلى وزارة الخدمة المدنية. فيظهر بعدها بأيام قليلة ويتحدث في حوار تلفزيوني عن محاور عدة أبرزها أسباب تأخر مستحقات الطلبة الدارسين في الخارج التي عزاها إلى تأخير في الميزانية الرئيسية للدولة، وواقع الجامعات الخاصة التي تنتشر بصورة ملفتة، وإغلاق برامج التعليم عن بُعد في معظم هذه الجامعات لعدم التزامها بضوابط وشروط التعليم عن بُعد، وإلزام الجامعات المستمرة بتوفير مقومات حقيقية للتعليم عن بُعد، أيضا توجيه إنذار نهائي للجامعات الأهلية لاستكمال متطلبات كليات الصيدلة والمختبرات، ومنحها شهرين كفرصة أخيرة. كما أنه لم يتجاهل الحديث عن قضية جامعة ذمار التي حدثت الشهر الفائت.
في هذا اللقاء المصور لم يُجد المحاور اختيار لحظات مقاطعة الضيف؛ وهذا لا يعني خصماً من غباء أحد؛ لكنني كمستمع وددت لو تجاوز المذيع 20 ثانية حينما كان الرجل يجيب على سؤال يتعلق بحادثة اقتحام مسلحين الحرم الجامعي والبحث عن عميد كلية العلوم في جامعة ذمار، الذي أصدر قرارا بفصل نجل نائب مدير أمن المحافظة، لتآمره مع شخص آخر لتأدية الاختبار بدلا عنه. عرف الناس كل ما ترتب على الحادثة؛ خاصة ما أثاره محافظ ذمار العمري من تصريحات ضد وزير التعليم العالي، بأن الأخير "يريد نقل الحراك من المحافظات الجنوبية إلى المحافظات الشمالية".
في اعتقادي، لم تكن هذه المحاولة أكثر من تدليس في وجه الحقيقة، وكيل التهم بقبح الانفعالات السياسية التي جبلت عليها نفس مسؤول غبي؛ لا أعرف باصرة، ولم ألتقِ العمري؛ غير أن تاريخ الرجلين يطفو على السطح كلما استدعينا حضور الحقيقة وغلبنا مصلحة البلاد. حاربنا الفساد بأدواته الفعالة، وزجرنا أبناء الذوات وخدام خدام المحسوبية والعنصرية والمناطقية القذرة.
المحافظ الذي يجب أن يمثل قيمة إضافية لمحافظة ذمار كونه من أبنائها، وضع كل قضايا المحافظة جانبا وذهب لملاحقة الناس بتهمة مخلفات القراطيس في الشوارع؛ ما جعلهم يوبخونه بيحيى قراطيس؛ انتقاصا لضحالة قضيته الرئيسية. كان الأهم من ذلك أن تبحث عن التغيير الذي ينشده أبناء المحافظة في رئاسة الجامعة التي تملّكها رئيس الجامعة حتى بتنا نخشى عليها التوريث كما قال أحد المواطنين.
لا يعرف أبناء ذمار أن محافظهم هو من يتمترس خلف قرار تغيير رئيس الجامعة الذي عفا عليه الزمن، ما الذي يمكن لأبناء هذه المحافظة وغيرها وصفه على أنه عمل إيجابي قام به هذا الرجل؛ حينما نتذكر المحافظ لن تغيب عن أذهاننا الحروب الست في محافظة صعدة، ولا يمكن نعته بأكثر من مدشن حرب، فالمحافظ الذي ما تزال تداعيات تلك الحروب تلحق أضرارها وكوابيسها بالناس والبلد حتى الآن جراء سياسته الغبية وضغائنه منذ أن كان محافظاً في صعدة، وبعدها في محافظة البيضاء؛ لا تنتهي صراعاته ولن تنتهي؛ ليس لأنه ذكي بل لأن البطلجة من سمات هذا النظام وكروت تعبئة العقلية القبيلة المنتهية، فيما الدكتور الذي يجلس أعلى هرم أهم مؤسسة علمية وبحثية في البلد، يتلقى يوميا العديد من الخطابات وقصاصات الرسائل كما قال: من مسؤولين في الدولة ونافذين ومشائخ وأعضاء برلمان.
في آخر لقاء تلفزيوني في قناة السعيدة، استمعت للوزير وهو يتحدث عن وضع الوزارة والسلم الوظيفي المهزوز بأصحابه من بعض الموظفين المغشوشين. كان يبتسم بأسى وهو يقول: "أحتاج لسلاح القانون" لأنه -كما يضيف- اكتشف مؤخرا طلاباً يدرسون في الخارج مع أنه رفض وثائقهم أكثر من مرة، ولأسباب تدنٍّ في المعدلات مثلا، أو أنهم لا يستحقون هذه المنح إطلاقا. ويواصل: لذلك أسقطنا عن أغلبيتهم المنح، وتجري الإعدادات للبقية.
والأسبوع الفائت فقط تأكدت من معلومات إضافية هي في الأصل تغذي نقطة الحقيقة قبل أن تسند مادة صحافية أو مقال رأي، بدأت الوزارة منذ مطلع العام وحتى الآن في إسقاط مستحقات 721 طالباً وطالبة مبتعثين للدراسة في الخارج، بسبب تعثر هؤلاء -بحسب الوزارة- دراسيا، أو انقطاعهم وغيابهم وتجاوزهم لمدة السنوات المحددة للإيفاد، بالإضافة إلى أن معظم الطلاب المتعثرين والمنقطعين والمتجاوزين هم من الذين يحصلون على منح بالتوجيهات العليا والتوصيات والوساطة نظرا لتدني معدلاتهم ومستواهم العلمي. كما أصدرت الوزارة توجيها تضمن إنذاراً ومنح فرصة أخيرة ل426 طالباً وطالبة مبتعثين لإنهاء إيفادهم، ومعظم الذين حصلوا على هذه الفرصة بحسب الوزارة "هم من الطلبة الذين تعثروا عاماً أو عاماً ونصف وقد أوشكوا على التخرج"، أو مستمرين بالطريقة التي نعرفها جميعا بتوجيهات عليا وتكابدها الوزارة كل عام بما يكفي.
لا أفضل امتداح أحد، ولكن حينما تدار إحدى مؤسسات الدولة بهذه الطريقة يجب أن نصفق لمسؤول كهذا؛ ببساطة لأن هذا المواطن غرق ولم يعد يقوى حتى على الحديث عمن يحسن أو يسيء. في الغالب لن تجد أي مسؤول هنا يتحدث في هذه التفاصيل سرا، فما بالك حينما يتحدث وزير بها في وجه الكاميرا.
البلد في أمن وأمان واستقرار، والفساد قصة أسطورية دفنت وشبعت موتاً، وكأننا لم نعش فسادهم في الشارع والبيت والبر والبحر. أعرف طالباً يدرس في أمريكا على نفقته الشخصية ويدفع 15.000 دولار للفصل الواحد، كما أنني أعرف تماما المستوى المادي لأسرته؛ ومع أن "محمد" الذي سافر قبل سنتين لدراسة البكالوريوس هندسة صناعية، ويلقى الآن عناء كبيرا في الجانب المادي الذي يتهدده بعدم القدرة على مواصلة التعليم؛ وهو في المراتب الأولى على مستوى دفعته؛ أعرف أيضا بل وأنا على يقين أن أصغر مسؤول في الدولة لديه 2 إلى 3 أبناء يدرسون في أرقى الجامعات خارج البلد، وتمنحهم خزينة الدولة مستحقات شهرية عن فشلهم الدراسي لسنين، ومع ذلك فهم مستمرون بكل حذلقة في دراسة السنة ب3 سنوات، لطالما المالية تنفق، والآباء يدافعون بأظافرهم عن الجباية التي يحصل عليها الأبناء رغماً عن أنف التعاليم العالي، رغماً عن أنف اليمن.
[email protected]
التعليم العالي ومدشنو الحروب
2010-03-28