ونحن ندخل أجواء كوريا الجنوبية، كأن أحدهم خبطني خلف رأسي بعمود حديدي أفقدني الذاكرة؛ وصلت كوريا، وكنت أعيش كالمخبول؛ أبكي بشكل شبه يومي. ما الذي أتى بي إلى هذا الجحيم البعيد؟!
كنت أحدق في وجوه الكوريين، ولا أستطيع التمييز بينهم، ولا أستطيع التقاط كلمة من حديثهم، ولا حتى حرف واحد! وعندها أخبرت نفسي أن هذا الشعب الغريب لا يوجد لديه لغة، وربما هم يتحدثون بلغة تشبه لغة العصافير والكائنات الأخرى. هكذا أقنعت نفسي، ومضيت نحو توهاني.
في جزيرة جيجو الكورية، وهي المكان الذي هبطنا فيها أول مرة عام 2018، لمواصلة رحلة العذاب، كان هناك ناشطة مدنية اسمها "جي يون"، أصبحت صديقتنا، كانت تتحدث الإنجليزية، وتحب أغاني فيروز، وكان الزميل منير المعمري يترجم لنا ما تقوله، وما نريد قوله لها.
وفي أحد الأيام أخذتنا بسيارتها صوب البحر للنزهة، هي لا تجيد القيادة تمامًا، كانت تقود مركبتها بشكل مخيف، وفي ذاك اليوم، ونحن في طريقنا للبحر، دهست المجسمات البلاستيكية (الأقماع) التي تضعها شرطة المرور على جوانب الطرقات، عندها حملقت في وجه عبدالله الهريش الذي يشاركني المقعد الخلفي في السيارة، وكانت ملامحه قد تغيرت كونه سائقًا متمرسًا. صديقتنا مضت لتكمل وجهتها، وكأن شيئًا لم يكن، ومنير بجوارها يشاركها نفس الشعور!
هاني الجنيد في جزيرة جيجو (النداء)
بعد أن وصلنا الساحل، ذهبت جي يون للسباحة، وأخذتني معها كوني الوحيد أجيد السباحة. المكان الذي نسبح فيه مرعب، فحاولت الخروج، لكنها أمسكت بيدي، وأخذتني بعيدًا.
شاهدت شواهق تحت البحر، الشعب المرجانية والأسماك الملونة، كنت مرعوبًا وأنا أشاهد صخورًا وكهوفًا هائلة تحت الماء، وعندما انتهينا من السباحة عدنا إلى اليابسة، وتحدثنا في أمور عدة عن أشياء نجهلها عن بلدهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم، حينها تبادر إلى ذهني سؤال كان يحيرني من هو شاعر كوريا الأكبر؟ بمعنى هل لديكم بردوني؟
بسؤالي هذا كنت أريد أن أجد أي شيء يطمئنني في هذه البلاد القاسية التي لا تعرف غير العمل الشاق، ونظرتهم للغرباء ككائنات فضائية!
ضحكت جي يون، وأجابت أنه لا يوجد شعراء في كوريا!
عندها كأني ابتلعت ثعبانًا، وكان ردها كمن قضى على كل أحلامي في قراءة قصيدة تتغنى بالطبيعة الخلابة التي كانت من حولنا.
أخبرتها طالما لا يوجد لديكم شعراء ولا أدباء، ما حاجتكم الى هذه اللغة المعقدة؟ أنتم بلد صناعي وتجاري! تعلموا الإنجليزية أو اخترعوا لغة ومصطلحات سهلة كي تستطيعوا التواصل بها مع العالم، وتبيعوا ما تصنعون.
كانت تضحك، ووافقتني الرأي. وعندما أردنا التحدث عما هو الشعر، أخبرها منير أننا نشبه وجوه حبيباتنا بالقمر، أو جمالهن بفتنة الورد والزهر، فاستغربت من هذا التشبيه الذي لم تعهده من قبل في بلدها.
مرت الأيام والشهور وأكثر من عامين وأنا على يقين أنه لا يوجد في كوريا شعراء! ومن عدن يحدثني الرفيق نشوان العثماني عن شاعر كوري اسمه كو أون؛ لم أصدقه! فبحثت عنه في جوجل، ووجدت له ديوانًا مترجمًا إلى العربية، بعنوان "ألف حياة وحياة"، وهو الديوان الذي حدثني عنه نشوان، هجمت عليه كالصقر، وقرأته بنهم؛ إنه شاعر خلاب وساحر.
الشاعر الكوري كو أون (النداء)
عاش الشاعر الكوري كو أون كراهب بوذي، وتعرض للسجن مرارًا بسبب نشاطه السياسي في الدفاع عن الديمقراطية في كوريا.
ويعتبر أسطورة الأدب الكوري، وأكثرهم غزارة وخصوبة، ومن وجهة نظري هو مكتبه أدبية ومعرفية متكاملة تحتوي على أكثر من 150 كتابًا، منها 70 ديوان شعر، و8 روايات، و11 كتابًا في النقد والبحث الأدبيين، و25 كتابًا في النثر، و5 كتب في أدب الرحالة، و4 كتب في أدب الأطفال، والبقية توزعت بين التراجم وسيرة ذاتية، وكتب أخرى أعدها وحررها. هذه المعلومات أخذتها من جوجل.
وتعمدت اختيار القصيدة الآتية من ديوانه "ألف حياة وحياة" التي يتحدث فيها عن الشعراء، لطالما كنت مصدقًا ومصدومًا أن لا شعراء في كوريا.
وقتٌ مع الشعراء الميتين
نحنُ في بقعة واحدة من الكون،
أحيانًا ما تكونُ برية عديمة الرَّحمة،
وأحيانًا تكون رحم الرَّحمة.
هنا، كلٌّ منا
ليس مجرد شاعر حي وحيد.
هنا، نحن الشعراء الأحياء، تبدل حالنا
أصبحنا شيئًا آخر، تحولنا إلى وطن غريب.
لا صوت يمر وراء تخوم الانقراض.
تئن أجسادنا حينًا تحت الثقل،
وأحيانًا تكون أخف من قلوبنا.
أرواح الشعراء الموتى
دخلت جسد كل منا،
وهي تطوي أجنحتها، وتتخذ منا سكنًا، فنصبحُ أكثر وزنًا.
أنا أكثرُ من نفسي،
وأنتم أكبر من ذواتكم.
نحنُ نُغنِّي بلسان العالم،
بلغة جديدة ابتكرها الشعراء الميتون.
بدأنا وحدنا
ثم أصبحنا معًا. فخفَّ متاعُنا.
مثل موجاتٍ تنفجر عاليًا على هيئة أعمدة عملاقة، كدوَّامةٍ مجنونةٍ،
ثم، في الصباح التالي، نهدأ مرة أخرى،
كنوارس خرجت من مخابئها بعد انقضاء الفزع،
فلم تعد ترتعش،
ومضت تحلق عاليًا، ترسم أجمل الدوائر وأكملها،
مات واحد.
مات شاعرٌ، همس أحدُهم.
في أزمنة، كان النهارُ طويلًا كما لو كان أمعاء تنمو ببطء؛
في أزمنة سواها، كان النهارُ قصيرًا كما لو كان جناح طائر نورس صغير،
ولأن ما تبقى من حياة الشعراء الموتى قد فُرغ من أمره
ففي قلب كل حياة منا تولد أسطورة.
في فضاء فوق السهل على ارتفاع خمسة آلاف متر
كان هناك طائر نورس ذابلٌ ونحيل يحلق.
منذ زمن بعيدٍ، سحيق،
اقتربت على نحو سريع قارة، فاصطدمت.
ومن ثم أضحى ما كان ذات يوم بحرًا يفورُ
جبال الهيمالايا.
فقدت النوارسُ مجالها.
فصرخت عاليًا.
لا بد أن هذه النوارس جيل ثانٍ، أو ثاني عشر، إن لم تكن الثاني بعد ألف وثلاثمائة... ويأتي زمن آخر، يأتي زمنٌ آخر.
لتصبح صيحاتها في النهاية أغنيات، وتغدو قصائد.
من ثم، فإن كلًا منا،
هو شاعرٌ حيٌّ.
لسنا مجرد شعراء أحياء وحيدين
وإنما شعراء ثلاثة، سبعة شعراء، أحد عشر شاعرًا، في هذا العالم، والعالم الذي يليه.
نحن ذوو الحساسية الأرهف،
في كل زمن عبرناه.
الآن زمن التذكارات التي نتركها للأرواح الأخرى،
تذكارات ينسبها أحدٌ لكل منا.
سيترك لقاؤنا هنا لا محالة مشاهد من رحيل متعدد وموت متجدد
في أماكن شتى، وليس هنا فحسب.
ها هنا!
في وطننا بحيرة، مدهشة.
على سطح مياهها، تطفو
بين إغماض عين وفتحها،
زهرة ليلك بيضاء.
ما أبأس شاعرًا لم يكتب مرثية.
يجب أن نحمل على عاتقنا أحيانًا بأس ذلك الأسى
لنكتب مرثية جديدة،
إنها اسم آخر لأغنية حب، لزهرة.
نعم! نحن بحاجة إلى الحزن.
فلاتزال البحيرة تذكرُ بحرها القديم.
نحنُ في بقعة واحدة من الكون،
أحيانًا ما تكونُ برية عديمة الرَّحمة،
وأحيانًا تكون رحم الرَّحمة.
هنا، كلٌّ منا
ليس مجرد شاعر حي وحيد.
هنا، نحن الشعراء الأحياء، تبدل حالنا
أصبحنا شيئًا آخر، تحولنا إلى وطن غريب.
لا صوت يمر وراء تخوم الانقراض.
تئن أجسادنا حينًا تحت الثقل،
وأحيانًا تكون أخف من قلوبنا.
أرواح الشعراء الموتى
دخلت جسد كل منا،
وهي تطوي أجنحتها، وتتخذ منا سكنًا، فنصبحُ أكثر وزنًا.
أنا أكثرُ من نفسي،
وأنتم أكبر من ذواتكم.
نحنُ نُغنِّي بلسان العالم،
بلغة جديدة ابتكرها الشعراء الميتون.
بدأنا وحدنا
ثم أصبحنا معًا. فخفَّ متاعُنا.
مثل موجاتٍ تنفجر عاليًا على هيئة أعمدة عملاقة، كدوَّامةٍ مجنونةٍ،
ثم، في الصباح التالي، نهدأ مرة أخرى،
كنوارس خرجت من مخابئها بعد انقضاء الفزع،
فلم تعد ترتعش،
ومضت تحلق عاليًا، ترسم أجمل الدوائر وأكملها،
مات واحد.
مات شاعرٌ، همس أحدُهم.
في أزمنة، كان النهارُ طويلًا كما لو كان أمعاء تنمو ببطء؛
في أزمنة سواها، كان النهارُ قصيرًا كما لو كان جناح طائر نورس صغير،
ولأن ما تبقى من حياة الشعراء الموتى قد فُرغ من أمره
ففي قلب كل حياة منا تولد أسطورة.
في فضاء فوق السهل على ارتفاع خمسة آلاف متر
كان هناك طائر نورس ذابلٌ ونحيل يحلق.
منذ زمن بعيدٍ، سحيق،
اقتربت على نحو سريع قارة، فاصطدمت.
ومن ثم أضحى ما كان ذات يوم بحرًا يفورُ
جبال الهيمالايا.
فقدت النوارسُ مجالها.
فصرخت عاليًا.
لا بد أن هذه النوارس جيل ثانٍ، أو ثاني عشر، إن لم تكن الثاني بعد ألف وثلاثمائة... ويأتي زمن آخر، يأتي زمنٌ آخر.
لتصبح صيحاتها في النهاية أغنيات، وتغدو قصائد.
من ثم، فإن كلًا منا،
هو شاعرٌ حيٌّ.
لسنا مجرد شعراء أحياء وحيدين
وإنما شعراء ثلاثة، سبعة شعراء، أحد عشر شاعرًا، في هذا العالم، والعالم الذي يليه.
نحن ذوو الحساسية الأرهف،
في كل زمن عبرناه.
الآن زمن التذكارات التي نتركها للأرواح الأخرى،
تذكارات ينسبها أحدٌ لكل منا.
سيترك لقاؤنا هنا لا محالة مشاهد من رحيل متعدد وموت متجدد
في أماكن شتى، وليس هنا فحسب.
ها هنا!
في وطننا بحيرة، مدهشة.
على سطح مياهها، تطفو
بين إغماض عين وفتحها،
زهرة ليلك بيضاء.
ما أبأس شاعرًا لم يكتب مرثية.
يجب أن نحمل على عاتقنا أحيانًا بأس ذلك الأسى
لنكتب مرثية جديدة،
إنها اسم آخر لأغنية حب، لزهرة.
نعم! نحن بحاجة إلى الحزن.
فلاتزال البحيرة تذكرُ بحرها القديم.