حينما تجتاحني وعكة صحية أهرع إلى صورة والديّ... أستأنس بهما وأشعر بالدفء... اليوم وأنا أتأمل صورتهما أخذني الحنين بعيدًا، واتسعت رقعة الأسئلة وعلامات الاستغراب والتأثر!
أسئلة واخزة تمنيت أن أوجهها لأبي، لولا أنه غادرني باكرًا على غفلة..
أتأمل أمي وينخرني السؤال، ما الشيء المميز فيها الذي جعلها أول حب لأبي.. حتى إنه ظل يحبها في كل المرات من جديد...
أمي الفتاة الريفية المطلّقة التي كانت تعمل في إحدى مزارعه..
أمي التي عاشت حياة بائسة قبل أن يحتويها قلب أبي.. لم تكن تفقه أمور دينها ولا دنياها.. ليست حكيمة، وخبرتها بإدارة المنزل بسيطة جدًا، ولا تجيد الطبخ بمهارة..
تحكي لي أمي قصتها مع أبي... أنصت إليها كل مرة بنفس الشغف واللهفة... تعرض عن الطعام حين يتعكر مزاجها أو حين يغضبها أحد إخوتي، فيهرعون إليّ لأقنعها، كنت صديقة لها أكثر من كوني ابنتها...
"ذقت مع أبيك كل نعيم الدنيا": الجملة التي ترددها دائمًا، وتعقبها بالترحم عليه...!
أشعر بالفخر أكثر، وتزيد حيرتي أكثر... والدي المثقف المنفتح على الآخر من ديانات وبلدان مختلفة... كيف له أن يحب إنسانة بتلك البساطة، بكل ذلك الجنون.. غادر قريته، وترك عمله في السعودية تلبية لرغبة أمي التي تريد العيش قريبًا من أهلها!
لم أسمع أبي يومًا يمُنُّ على أمي أنه احتضن أخواتها وأخيها، وأكرمهم كرمًا لم يقدم جدي لهم عُشْرَه...
مكثت جدتي في بيتنا حتى غادرته إلى قبرها... مازلت أتذكر دموعها حين غادرنا أبي، وصلواتها لأجله...!
لا أذكر أن أمي فرطت يومًا بصلاتها... تقوم الليل فأسترق السمع أحيانًا، لأجدها بعد مرور كل هذه السنوات تدعو لوالدي وتلهج بذكره...
في الصباح أقبّلُ رأسها وأداعبها بما سمعت... تقول: "حين ارتبطت بوالدك لم أكن أعرف شيئًا اسمه صلاة.. والدك علمني كل شيء".. في الوقت ذاته أتفاجأ أن أمي تحب سماع شادية ونجاة وأم كلثوم وحليم... ولها صورة ترتدي فيها نفس فستان فاتن حمامة، وتبدو شبيهة بها!
تسترسل في سردها لقصة حبهما.. تهطل التفاصيل على قلبي أرق من الندى... تخبرني عن رومانسية أبي.. عن السينما التي كان يصحبها إليها مرة كل أسبوع... عن فساتينها وذهبها الذي كانت تغيره مع صيحة كل موضة.. عن إحساسها عند ركوبها الطيارة لأول مرة بصحبته.. عن الأماكن التي زارتها معه.. وعن قتاله لجدي الذي كان يرفض زواجه منها...
عن خطئها الذي لا يغتفر "غفلتها عن أختي البكر وموتها غرقًا"، والذي دفع والدي ثمنه أن فقد صلته بالحياة لسنوات، وأصيب على إثره بالضغط والسكر... لم يهددها بالطلاق، ولم يرجعها لأهلها، أو ينهل عليها بسيل من الشتائم كما يفعل أشباه الرجال.. كل ما فعله هو أنه هجرها، وهجر الحياة حتى استعاد توازنه...!
عاش أبي يتيمًا، وبدأ حياته من الصفر، كيف استطاع أن يكون عظيمًا لهذا الحد!
أتأمل صوره، ويزيد إعجابي به.. شخصيته، حنانه، أناقته، ورقيه... أستعيد ذكرياتي معه.. طقوس الفجر التي كان يحبها.. عشقه للأشجار التي كانت تملأ فناء منزلنا...
شاي الأعشاب والمشروبات الصحية التي كان يتفنن في تحضيرها لنا... الوجبات التي كان يطهوها لنا حين تتعب أمي!
حتى العقرب التي لدغته حين كان يوصل صديقة طفولتي إلى منزلها...!
والدي مفرط الحنان رغم صرامته التي تبدو عليه...
وأنا في السابعة زارنا أحد المسؤولين وأكبر أعيان القرية؛ لخطبة أختي لابنه.. كانت زواجة تحلم بها كل فتيات القرية وآبائهم.. مازلت أذكر جملة أبي حين صدح بها في وجهه: "ما عندي بنات للزواج!".
حين كبرت وفهمت سبب رفض أبي، أكبرته، وزدت إعجابًا به!
لم يكن يخجل من البوح بحبه لأمي أمامنا... لذا نشأنا على المحبة وثقافة العناق والبوح بمشاعرنا دون خجل!
في كل مرة أسألني عن سر أمي... سر محبة أبي لها!
أمي صعبة المراس رغم حنانها المفرط... قنوعة وصبورة.. بيتوتية ومنغلقة على نفسها.. محبة للحياة رغم كل المآسي التي عاشتها.. حتى بعد الثمانين عامًا تحتفظ بأسنانها كاملة.. قوامها وشعرها الأسود الذي يخالطه القليل من الشيب. لم يهدّها شيء سوى موت أخي وسفري.. ربما كنا قطرة الندى التي أثقلت ظهر الوردة!
أبعد الصورة عن صدري، أقبلها، وأردد في نفسي:
كان والدي -رحمة الله تغشاه- رجلًا مكتمل الرجولة، وكانت أمي أنثى.. أنثاه الوحيدة...!