عام لم يمض!
> عبد الباري طاهر
في نهايات العام 2006 أجرى موقع إيلاف مقابلة مهمة وعميقة مع المفكر التقدمي العفيف الأخضر، تناول فيها العفيف أحوال وأحداث العام المنصرم، وتنبؤاته العميقة لأحداث العام الجديد 2007.
العفيف الأخضر ابن جامع الزيتونة والقيروان، درس بعمق تجربة الحداثة والعلمانية التونسية، قارئاً الإصلاح الديني، والتجديد الذي انتهجته «تونس»، وهو -أي الإصلاح في تونس- قد ارتبط بحركة الإصلاح التركية كما عند خير الدين التونسي، وبالتأثير الحضاري الهائل لأوروبا.
يعتبر العفيف من القامات الماركسية ذات المنهج القائم على الثورة الدائمة التي تبناها ودعا إليها تروتسكي.
كما انتقد العفيف وبقوة وعمق تجربة الاتحاد السوفيتي البيروقراطية، منتقداً بحدة منهج لينين وستالين، وسفه البيروقراطية، وغياب الروح الديمقراطية، والانحرافات في النهج السوفيتي برمته.
والعفيف من مفكرين عرب قلائل أمثال سمير أمين والراحل الكبير جوزيف سماحة من أهم من انتقد تجربة الاشتراكية السوفيتية، وحمل انتقادهم نبوءة سقوط هذه التجربة.
وفي سياق الحديث عن النبوءة -بمعنى استشراف المستقبل و«قراءة الواقع»- فإن قصيدة للشاعر المبدع عبدالكريم الرازحي وهجائيات الشاعر الكبير الباحث والناقد عبدالودود سيف للدولة السوفيتية وبيرقراطيتها ما ينبي بالنهاية المحتومة لتجربة كانت تعد نفسها الأنموذج الزاكي للبشرية والمستقبل.
درجت العديد من الصحف وأجهزة الإعلام على رصد حصاد العام، وتقوم عادة مراكز البحث والتوثيق أيضاً بمثل هذا الرصد. والحقيقة أن الأحداث والوقائع متداخلة ومترابطة لا يمكن فصم عراها.
وجل ما يعمله الباحث أو المؤرخ هو تحديد زمن وقوعها، ولكن الأحداث حتى المباغتة منه تمتد عروقها عميقاً عميقاً في الواقع المرئي والمتحول في آن.
ولعل أهمية مؤرخ مهم كابن خلدون يعتبر من المؤسسين الحقيقيين لعلم التاريخ والاجتماع، وتعد مقدمته الشهيرة إنجيل هذين المعلمين، قد نبه لهذا الترابط.
كارثة سيول جدة وأزمة دبي المالية أعادت إلى الأذهان رواية المفكر العربي المهم والروائي المبدع عبدالرحمن منيف «مدن الملح». فهذه الرواية التي سردت عميقاً نشأت مدن النفط، قد حملت دلالة «نبوءة خطيرة» ليس بالتسمية وإنما بالسياقات المومئة بأصابع ضوئية للمستقبل ولمخاطر محدقة.
قبل بضعة أعوام كتب مفكر أمريكي مهم هو إلفين توفلر كتباً مهماً في النبوءة وقراءة كف الآتي «صدمة المستقبل».
وفي مطلع السبعينيات تنبأ الباحث بالتطورات التي شهدها عقدا الثمانينيات والتسعينيات وحتى اليوم.
واصل المفكر الأمريكي دراسة التحولات المهمة، مستخدماً المزج الخلاق بين الماركسية والهيجلية، خصوصاً في كتابه «تحول السلطة»، فقد درس فيه عميقاً تطور المجتمع البشري ابتداء من الزراعة، مروراً بعصر الصناعة، ووصولاً إلى الثورة الثالثة.
وقبل عدة أعوام أصدر الباحث فوزي منصور كتابه «خروج العرب من التاريخ»، ومثل كتابه مأزق العرب في نهايات القرن العشرين، وبداية الانهيار للأمة ككيانات وشعوب.
هناك الآن أكثر من إشارة وأكثر من مؤشر لخروج العرب من التاريخ والجغرافيا معاً، على سبيل المثال مصر، فمصر عبر التاريخ كانت غزواتها تأتي عبر فلسطين، فهي أمن قومي على مدى التاريخ، فغزوات الفرس والرومان والتتار والمغول والصليبيين وحملات الاستعمار وحتى قيام دولة إسرائيل وحروبها المتكررة.. فهذه المصر العظيمة عبر التاريخ يقوم الحكم فيها بحصار غزة؛ بوابته على المشرق العربي وامتداده الحضاري، والذي لم تقم دولة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية إلا للفصل بين مشرق العرب ومغربهم، كأهم هدف من أهداف الاستعمار والامبريالية. ويجري الحديث عن خطط لبناء سور فولاذي بتمويل أمريكي، خدمة للهدف الرائس الذي من أجله أنشئت الدولة الصهيونية.
وفي السودان يقوم الحكم بالحرب الإجرامية ضد دارفور (ثلث بلاد السودان)، وكأنها ليست جزءاً من الشعب السوداني.
وتهرب إيران الآيات... من أزمتها الداخلية الطاحنة، ومن مأزق ولاية الفقيه المنقلبة على ولاية الأمة التي دعا إليها محمد حسين النائيني في كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» في مطلع القرن العشرين، وثورة مصدق مطلع الخمسينيات، والثورة الإيرانية عام 1979.. تهرب إيران الملالي إلى تهديد العراق والتدخل في شؤونه الداخلية، وجره إلى الاحتراب الطائفي. بينما يهرب الحكم العربي الفاسد والمستبد إلى تحويل الصراع من صراع عربي إسرائيلي إلى سني شيعي استجابة للإملاءات الأمريكية خدمة لإسرائيل. وتؤيد مجموعة عباس الحصار على غزة إن لم نقل تتواطأ. الانقسام الفلسطيني الفلسطيني يهدد بضياع القضية برمتها، ولا نستبعد وجود تنسيق إسرائيلي مع بعض الفلسطينيين لمواجهة بعضهم.
ما يجري في العراق من جرائم الإبادة تشترك فيها أطراف أمريكية (الشركات الأمنية)، وإسرائيل وعملاء إيرانيون وعرب وعراقيون، مستهدفين تدمير وحدة العراق ونهب ثرواته.
الحالة في اليمن سائرة في اتجاه العرقنة والصوملة. وبدخول السعودية على خط الحرب والأمريكان في المواجهة مع القاعدة، يتحول البلد بحق إلى باكستان ثانية، وحقل تجارب حروب قد تشارك فيها أطراف عديدة لتصبح حرب الكل ضد الكل.
العام القادم فاجع. فلون السواد هو ما يطبع وجه اللوحة، ولكن تباشير أو بصيص أمل أو نور ينبعث من بين الركام والدمار الذي تصنعه الطائرات المغيرة والمعتدية في أفغانستان والباكستان وفلسطين ولبنان والصومال واليمن. فالنظام الفاسد والمستبد في الوطن العربي يهرب من أزمته العامة إلى اصطناع الحروب واختلاق الأعداء، والحرب أداته الوحيدة ووسيلته المثلى للمكوث طويلاً في البركة الراكدة الآسنة، وهي نفس السلاح الذي يلغي به ملالي إيران الثورة المشروطية التي دعا إليها علماء الدين المستنيرون في إيران منذ العام 1906. وتمثل تركيا علامة تحول وعافية في الدولة الأنموذج التي تحاول الخلاص من قبضة «العلمانية» القومية المستبدة وإرث العسكرة الفاشي.
وفي الوطن العربي فإن الأصوات المناوئة للحرب في العراق واليمن والسودان والصومال، والداعية للإصلاح الشامل والحوار ما تزال في تصاعد، ويوماً عن يوم يدرك المحتجون في الجنوب استحالة العودة إلى ما قبل ال22 من مايو 90، وأن الخلاص اليمني جزء لا يتجزأ من خلاص الأمة العربية كلها، وهو ما يفرض نضالاً سلمياً عاماً ومشتركاً، وربطاً عميقاً بين النضال ضد الاستبداد والفساد الداخلي وبين الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين والعولمة العسكرية للامبراطورية الأمريكية.
وعلينا دائماً التذكير بأن ما يجري أو يصيب جزءاً من جسد الأمة يصيب أو يعم الجسد العربي كله. رغم مظاهر القطيعة وغياب الترابط، فهذه الأمة النائمة من الماء إلى الماء، تُفرض عليها الحرب لنهب ما تبقى من ثرواتها بعد استلاب إرادتها وحرياتها وهويتها القومية، والأمل في التحرير والتغيير لا يأتي من فراغ أو ثمن كاذب، فالمقاومة في فلسطين الآن لابد أن تتوجه ضد الاستعمار الاستيطاني والأدوات الفاسدة والمستبدة المتحالفة معه.
انتصار لبنان علامة مهمة، وبداية التحولات السياسية في العراق وبشائر هزيمة الغزو الاستعماري بقيادة أمريكا واضح الملامح. كما أن التصدي للمطامع الإيرانية في العراق لا يقل أهمية.
فضح خرافة الصراع السني الشيعي الذي تتبناه الأنظمة الفاسدة والمستبدة في الوطن العربي خدمة لأمريكا وحليفها الأساس إسرائيل، لا يقل أهمية أيضاً.
ويبقى الأمل المؤزر بالإرادة الحية والخلاقة سلاحاً مهماً في المعركة المستمرة والمتجددة في العام الجديد وأعوامنا القادمة، ولا يهزم تشاؤم العقل إلا تفاعل الإرادة كما قال الفيلسوف الإيطالي «لوكاشن»، والآية الكريمة «ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون».
لابد من إدراك الترابط العميق والجدلي بين النضال ضد الامبريالية والاستعمار وأدواتهما في المنطقة كلها، وبين النضال للتحرر والدسترة والديمقراطية والعدالة، ويكون الدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير (الحريات الصحفية) الحرف الأول في أبجدية مطالب عامة تبدأ ولا تنتهي.
يترافد الإرهاب ويقوي بعضه بعضاً. فإرهاب الدولة العظمى ينشر الإرهاب في الكرة الأرضية، وإرهاب إسرائيل يخلق مقاومة مشروعة، ولكنه أيضاً ينشر الإرهاب ويقويه.
وإرهاب حكوماتنا (غير الرشيدة) ضد الإرهاب الضالعة في تربيته ورعايته، يقوي هذا الإرهاب، ويقوي إرهاب القوى المتطرفة، ويزكي جنوح الدولة المستبدة والفاسدة لتصعد من عنفها ضد المجتمع، وقمعها للحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير والحريات الصحفية. وهو ما نشاهده في غالبية البلدان العربية.
عام لم يمض!
2009-12-22