رداً على مقالها "جسدها... حقها..!".. إلهام مانع.. بين العلمانية والإيمان! - عبدالرحمن سبأ
نشرت صحيفة "النداء" في عددها (169) الصادر يوم الأربعاء، 24 رمضان 1429ه الموافق 24/9/2008م، موضوعاً للكاتبة إلهام مانع تحت عنوان "جسدها... حقها..!"، والذي أتى استجابة لتساؤلات قارئ يمني –كما زعمت الكاتبة– تدور حول حرية المرأة ورأي الكاتبة في هذه القضية.
تساؤلات القارئ اليمني كانت وليدة موضوع سابق نشرته الكاتبة، بعنوان "أن تُدفن حياً" تحدثَت فيه عن الفلسطيني الذي دفن ابنته المطلقة –حيّةً– على خلفية خيانتها لشرفها وشرف العائلة... إلخ. والكاتبة بدورها حملت قلمها مستنكرةً هذه العادة الجاهلية –كما وصفتها– قائلةً: "جسدها ملكها، تفعل به ما تشاء"، وهي بذلك تتحمل مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية أمام قضية المرأة وتحريرها، متجاهلةً ما يحدث لنسائنا من اغتصاب وانتهاك لآدميتهن من قبل الغاصبين الصهاينة في فلسطين، والأمريكان في العراق وأفغانستان وغيرها، وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع.
لكن يبدو لي أن هذه قضايا لا تستحق أن تقف كاتبة بحجم إلهام مانع من أجلها، أو أن تضيع وقتها في مثلها، فهذا يصب في خدمة مشاريع الحرية والعدالة والمساواة وغير ذلك من المشاريع الإنسانية التي تتبنّاها.
إلهام مانع كاتبة وأكاديمية يمنية متخصصة في العلوم السياسية، تعمل في جامعة زيورخ السويسرية، علمانية/ علمانية مؤمنة؛ كما تصف نفسها في كتاباتها. تعرّضت في كتاباتها لعدة قضايا، كان أبرزها الدعوة إلى نزع الحجاب كشرط حضاري، في حين عدّت قتل المرتد عن الإسلام انتهاكاً للعقيدة، وهي من تحلم بأن تصلي مع الرجل في مكان واحد، وتقول ألا مشكلة في إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وأخيراً كرّست قلمها للتنصل من الدين بذريعة العلمانية، مكثفة كتاباتها لتحرير المرأة؛ لا من جهلها وسقوطها، بل من عفتها وكرامتها – والعياذ بالله.
وهي بذلك تعيد إلى الأذهان تلك الشعارات المسمومة، التي حملتها هدى شعراوي، وصفية زغلول في مصر، بداية القرن المنصرم حول الحجاب - تحديداً؛ وتذكّر من نسي أو تناسى ذلك النموذج المصري الذي لا يزال حياً يرزق؛ الدكتورة نوال السعداوي، التي تبنّت مثل هذه الدعوات، وطعنت الإسلام في أنقى قيمه ومعانيه، وبرّرت ذلك بأنها مسلمة وتخشى على الإسلام الضمور، في زمن لا يعترف إلا بهزّ الخصور. السعداوي التي قالت إن الحجاب عادة شرقية يصيب المرأة بالبلادة والتخلف العقلي، وأن الإسلام هضم المرأة حقها، حينما أباح للرجل الزواج بأربع وحرمها من الزواج إلا بواحد، وغير ذلك كثير مما لا يجدر بي ذكره هنا.
ولا أورد هذا من قبيل الإساءة لشخص الكاتبة، ولكنها استدعت تلك النماذج بكتاباتها الجريئة والمتجاوزة، والتي كان آخرها "جسدها... حقها" الذي تعرّضت فيه لقضايا متعددة –مسهبةً تارةً وموجزةً أخرى– كالعلمانية والنموذج التركي للعلمانية، والإيمان والإسلام، والمرأة، وغيرها، وهي قضايا –لا شك– معقدة وذات أبعاد خطيرة فكرياً ودينياً.
وللحقيقة أنني لست من أهل الاختصاص في مثل هذه القضايا، ولم أكن مستعداً لتناولها أو الخوض فيها، لولا أني وجدت نفسي مضطراً للإدلاء بدلوي وردّ ما يمكن ردّه مما عرضت علينا من بضاعتها، مستعيناً بالله أولاً وأخيراً.
"لا أتخذ من الدين، أي دين مرجعا...". كانت هذه أولى العبارات التي صدمتني (بعد العنوان طبعاً)، وقلت في نفسي: أي مرجع تتخذ الكاتبة، إن لم يكن الدين قبل غيره؟
ولتسمح لي الأستاذة إلهام مانع أن أتساءل معها، إن لم يكن الدين، أي دين، يمثل مرجعاً أو منطلقاً بالنسبة لكِ، فما ملامح هويتك الفكرية والثقافية؟ إذ أن الدين يعدّ رافداً أساسياً، يسير جنباً إلى جنب مع رافد الحضارة في تحديد ملامح الهوية الفكرية والثقافية للفرد والمجتمع.
وكما تقولين: "أتعامل من منطلق عقلاني إنساني حر. ببساطة أخرج الدين من حيزي العام..". أقول هنا: إذا كنت تقرّين بوجود العقل، فمن الذي كرّمك عن سائر المخلوقات بهذا العقل؟ أليس الذي أودع فيك هذا العقل، هو من أرسل رسله وأيّدهم بكتب سماوية لتبصيرنا وإرشادنا؟ ألا تقتضي الإنسانية أن نحترمها بتفعيل القانون الرباني الذي جاء لتنظيمها؟
"الدين بالنسبة لي ينظم علاقتي الروحانية بالخالق، وبالطريقة التي تتناسب مع احتياجاتي، أكرر، وبالطريقة التي تتناسب مع احتياجاتي"، "أنا أصلي عندما أحتاج إلى الصلاة، عندما احتاج إلى الصلاة..."، "فما دمت أقر بحاجتي إلى الصلاة، فإنها تعني حتما حاجتي إلى وجود الخالق، وإيماني بوجوده، لكني لا أمارسها إلا عندما أحتاجها...".
عبارات توزعت بين ثنايا مقالكِ عزيزتي، ولكِ الحق في قول ذلك، فأنتِ تبلورين مجموعة من المشاعر والأحاسيس والقناعات والتصرفات الخاصة، شريطة ألا يتجاوز قولكِ فضاءك الخاص إلى العام، أي عندما تكتبين للنشر، فأنت مدركة أن هناك قرّاءً سيطّلعون على ما كتبتِ، وعليه لا بد من المحافظة على القاعدة المشتركة التي تبقيك على صلة وثيقة بالقارئ، وهذه القاعدة هي احترام عقله ونفسيته، والتي تعدّ احتراماً للكاتب وكتابته في آن. ومثل العبارات التي حشوتِ بها كتابتك وحرصت على تكرارها لم يكن فيها ما يشي باحترام، لا للكاتب –مع احترامي الشديد– ولا لفعل الكتابة ولا للقراء، لأنها كانت عبارات نزقة قلقة متناقضة، وسمها طابعُ النرجسية؛ نرجسية من طراز فريد، هذه المرة مع الخالق وشريعته. وإلا بماذا تفسرين قولك: "الدين بالنسبة لي ينظم علاقتي الروحانية بالخالق، وبالطريقة التي تتناسب مع احتياجاتي، أكرر، وبالطريقة التي تتناسب مع احتياجاتي"؟ أليس هذا تجاوزاً؟
بالنسبة للصلاة التي تتحدثين عنها وعن ممارستها وقت الحاجة، متفاخرة بتكرار هذا الاعتراف الفريد، فيكفي أولاً أنك تقرّين بحاجتك للصلاة لإثبات تناقضك. ثانياً وفي كل الأحوال هو أمر يحزّ في النفس ويندى له الجبين ألماً وخجلاً؛ كون الصلاة فريضة على كل مسلم ومسلمة، وركناً من أركان الإسلام الخمسة، ولها شروطها وأركانها وسننها وأوقاتها وضوابطها، وليست قابلة للأخذ والرد أو تقلب أمزجة البشر، وبهذا يقرّ الفرد ذو العلم والوعي المحدودين، فكيف بمن نعدّهم صفوة المجتمع؟ أما أن هناك من المسلمين من يصلي خمس مرات في اليوم، وهناك من يصلي ثلاث مرات في اليوم، في حين أن هناك من لا يصلي إلا مرة واحدة في الأسبوع؛ فهذه أمور لا تمس جوهر الإسلام، ولا تغيّر قناعتنا بفرائضه، الإسلام واضح ومنهجه بيّن، والقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما بوصلتا هداية لنا، وسفينة نجاة من الانحرافات وتقلبات الطقس، لمن يعيشون في مناطق ذات مناخ مزاجي. كما أنه ليس من المنطق في شيء أن نلمز الدين الإسلامي بتصرفات بعض معتنقيه، لأننا نعلم أن الإسلام ليس مرتبطاً بسني أو شيعي، ملتزم أو مقصّر. فهو أوضح من أن يوضحه فرد أو طائفة أو مذهب، وأقوى من أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
وبالعودة إلى صلاة الكاتبة أتساءل -ومعي الكثير ممن قرؤوا مقالها، آملين تفضلها بالإجابة– عن كيفية صلاتها، وحقيقة حاجتها إليها، ومتى تلحّ عليها تلك الحاجة إلى الصلاة؟ ثم بالله عليك عزيزتي، هل أوامر الخالق –جل في علاه– وفرائضه خاضعة في أدائها والالتزام بها لرغبات ونزوات البشر؟
كيف استقامت لكِ هذه المعادلة؟ وكيف انطلت على عقلك مثل هذه الترّهات؛ وأنت مثقفة وأكاديمية من العيار الثقيل؟
العلمانية
في كتابات سابقة تصف أستاذة العلوم السياسية نفسها بالعلمانية المؤمنة، وفي مقالها الأخير تقول: "علمانية أنا، أؤمن بضرورة الفصل بين الدين والدولة، وأعتبره الشرط الأول من أجل أي إصلاح يمكن أن يحدث في مجتمعاتنا، ولنا في تركيا نموذج – رغم ما في نموذجها من مثالبـ".
ترسّخ في أذهاننا أن العلمانية مفهوم يعني فصل الدين عن الدولة، أو التعامل من وجهة نظر مادية لا تعتبر الدين طرفاً فيها، إلا أن دائرة المعارف البريطانية في حديثها عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، حينما قسمت الإلحاد إلى قسمين: نظري، وعملي؛ وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي.
لي هنا تساؤلات ملحّة سأطرحها على الكاتبة، وأولها: كيف ترد الكاتبة العلمانية على من يصنف العلمانية ضمن الإلحاد، الذي يتناقض تماماً مع مفهوم الإيمان؟
ثانياً: إلهام مانع، مسلمة عربية يمنية، انتهجت العلمانية وركبت موجتها، ولا أدري متى توفرت لديكِ القناعة بهذا الفكر، لكني أسألكِ: هل قرأت جيداً عن نشأة العلمانية والظروف المصاحبة لها؟ وهل تأكد لديكِ أن مثل هذا الفكر يتلاءم مع ثقافتنا الإسلامية أولاً، والعربية ثانياً؟
ثالثاً: عندما تستشهدين بتركيا كنموذج للعلمانية التي نحتاجها للإصلاح –مع العلم أن أغلب بلدان العالم الإسلامي تتبع أنظمة علمانية، ومازالت تراوح مكانها- هل عرفتِ أن العلمانية فُرضت على الشعب التركي المسلم فرضاً في ذلك الوقت، بتآمر من الدول الاستعمارية لإضعاف الدولة العثمانية، وإسقاط الخلافة الإسلامية؟ وتأكيداً لذلك فعلمانية تركيا لا تزال مرفوضة –شعبياً- حتى يومنا هذا، وهي في طريقها إلى السقوط، لأنها لم تكن خياراً شعبياً، بل إرادة مصطفى كمال أتاتورك. وعلى سبيل المثال قضية الحجاب، وأنتِ من دعاة نزع الحجاب؛ إصراراً منكِ على أنه سبب رئيس لتخلّفنا، فالعلمانية التركية بدأت من الحجاب، ومنعت ارتداءه في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، وها نحن اليوم وبعد مرور ما يربو على الثمانين عاماً من فرض العلمانية على تركيا، نقرأ ونسمع ونشاهد أن نسبة المتحجبات تقدّر ب65% من نساء تركيا. ماذا يعني ذلك؟
وبعيداً عن ذلك، فعلى حد علمي أن الكاتبة مسلمة، فضلاً على كونها أستاذة للعلوم السياسية، ومن البدهي أنها قد قرأت التأريخ الإسلامي، وقبله تأريخ العرب قبل الإسلام، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال جريح: لماذا غمطتِ الحقيقة باعتبارك العلمانيةَ نظاماً أقدر على الإصلاح لمجتمعاتنا من الإسلام؟ ولماذا نموذج تركيا؟ ألم تقرئي عن الدولة الإسلامية التي أرسى دعائمها معلّمُ البشرية وقائدها الأمثل؛ الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الذي وصفه أعداؤه قبل أصدقائه بأبرز مصلح اجتماعي في التاريخ؟
وكما يقال: الشيء بالشيء يذكر، دعيني أستحضر هنا ما قلتِه في أحد فتوحاتك الفكرية، أن الإسلام ليس الحل كما يقال، بل الإنسان هو الحل- لنعيد للحقيقة كرامتها الممتهنة. نعم، الإنسان عنصر أساسي وفعّال في الحل، هو بؤرة المشكلة وبؤرة حلها، فهو بنيان الله في أرضه، ولكن ألم يكن هذا الإنسان موجوداً قبل الإسلام؟ كيف كان العرب ومتى كانت السيادة والريادة للأمة العربية التي لم تكن شيئاً يذكر لولا مجيء الإسلام؟ وهل بلغت أمةٌ ما بلغته الأمة العربية –في ظل الإسلام- من رقي وحضارة في شتى المجالات، لاسيما الجانب العلمي والفكري منها؟
كل هذه الأمور تؤكد أن الإسلام هو الحل، ونحن من عطّلنا مبادئه وقيمه فتهنا، ويشهد لنا أحد المستشرقين المسيحيين حينما سُئل –من قبل عالم مسلم- عن سر تقدم الغرب وتأخر الشرق، رغم أن الشرق هو من أسس وشيد القواعد للعلم والفكر الإنساني الذي يتباهى به الغرب اليوم، فقال: "تركتم دينكم (يعني الإسلام) فتخلّفتم، وتركنا ديننا (يعني المسيحية) فتقدمنا. فهل وصلتكِ الرسالة سيدة إلهام؟
ولو كان الإنسان هو الحل، وليس الإسلام، لكان المسلمون اليوم أقوى من غيرهم، ولحكمنا العالم؛ فقد بلغنا من الكثرة أرقاماً قياسية، لكننا غثاء كغثاء السيل، لأننا تبدّلنا الخبيث بالطيب وتمثّلنا ثقافات وضيعة فسقطنا. اقرئي القرآن جيداً يا عزيزتي، واقرئي ما تيسّر من كتب الحديث الصحيحة وسيرة النبي العظيم –صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله– اقرئي كل ذلك بعيداً عن التعصب العقيم، أو التنصل المقيت، فو الله أن في سيرة رسولنا الكريم ما لو تسنّى للغرب المسيحي والعالم أجمع أن يقرأها ويعيها حق الوعي، لما تردد أحد لحظة في اعتناق الإسلام. اقرئي سير العظماء من أبناء الإسلام، ولا تنكفئي على استقراء سير الذين حرّفوا وبدّلوا، وستجدين أن الإسلام هو الحل.
رابعاً: تذكّري سيدة إلهام أن العلمانية التي أشرتِ إليها –إذا سلّمنا بها كضرورة اجتماعية للإصلاح- ليست سوى نظام يحدُّ من سلطة الدين على أنظمة الحكم وتشريعات الدول. أما أن تصبح دستوراً للإنسان يجرّه وراءه في كل شؤونه، حتى بعلاقته مع خالقه، وتصبح علامة تسم الشخص وتطمس معالم شخصيته وهويته؛ فذلك أمرٌ جد خطير يضعنا على فوّهة بركان. ولو كان الأمر كذلك، فما الذي يبقينا على قناعة بأن التركي الذي "تعلمن" لا يزال مسلماً، وأن الفرنسي العلماني يدين بمسيحيته التي عرفها قبل العلمانية - مثلاً.
خامساً: تقول الكاتبة: "لا أتخذ موقفاً سلبياً من الإيمان، لا أعتبر الإيمان بالغيبيات إيماناً خرافياً...". وأقول بدوري - مشفقاً لا متشفياً: "من الذي ألقاك في هذه الدائرة، حتى تدافعي عن موقفك من الإيمان؟ ولماذا حشرتِ نفسك في زاوية ضيقة وأنت في منأى عنها؟ أنت من بلد الإيمان والحكمة، واليمنيون على مرّ التاريخ ما عبدوا آلهة أرضية؛ حتى في جاهليتهم نظروا إلى السماء.
بين الإيمان والإسلام
تتساءل الكاتبة بعد حديثها عن صلاتها، وحريتها في ممارستها متى شاءت، تقول: "فهل كفرت؟ هل يخرجني هذا من دائرة الإيمان؟ لاحظوا أني قلت دائرة الإيمان، ولم أقل دائرة الإسلام. فالأولى تحدد أن الهدف الأساس من فكرة الأديان هو الله، الإيمان بخالق أكبر منّا، لا يهم كيف نصل إليه، المهم أن نصل إليه، والثانية تصرّ أن هناك طريقة مفصلة للوصول إلى الله، ومن يرفضها خرج من دائرته...".
أتمنى ألا يدل لفظُكِ على معناكِ، وألا تكوني مسلّمةً بأنك قد خرجتِ من دائرة الإسلام، هذا من ناحية. أما من الناحية الأخرى، فمعلوم أن الإيمان والإسلام وجهان لعملة واحدة؛ اعتقاد وعمل. وكما يقول أحد اللغويين: الإسلام باللسان والإيمان بالقلب، وفي الآية الكريمة يقول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم...} الآية. واتفق أهل العلم من اللغويين أن الإيمان معناه التصديق، كما أن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وعلى ذلك فالإسلام لا ينفصل عن الإيمان أو العكس؛ إن لم يكن الإيمان مقدماً على الإسلام. وإذا كنتِ عزيزتي الكاتبة لم تخرجي من دائرة الإيمان فأنت لم تخرجي من دائرة الإسلام –إن شاء الله– إلا إذا أردت ذلك، وإن أنت اعتقدتِ بذلك فأنت ستخرجين حتماً من دائرة الإيمان؛ فالمعادلة لا تستقيم بطرف دون الآخر. أما أن هناك من يكفّرون من لا يحب الله على طريقتهم، فأنت مخطئة وتعليلك غير سليم وغير مقنع، لأن طريق حب الله واحد، ولأنك لم تعتنقي الإسلام من أجل هؤلاء، إنما إيمانك بالله هو ما يحدد علاقتك بالدين ككل، وهو الذي يترتب عليه إيمانك بالوحي والقرآن الكريم والسنة النبوية...
أما أن تقرني الإسلام بدياناتٍ حُرّفت وبُدّلت (اليهودية والمسيحية) ودياناتٍ أرضية، ما أنزل الله بها من سلطان (البوذية والهندوسية) فهذه كبوة خطيرة، ولا يمكن أن تصدر إلا عن: إما فكر مغلوط أو مسموم، وإما عن عمى في البصر والبصيرة، وضيق في الصدر، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ إذ لا يعقل أن يقارن الإسلام بما دونه من الأديان -دون تمييز- في الجوانب المشرقة، فكيف بكِ وقد قرنتِه بما دونه في جوانب مظلمة.
وفي معرض حديثها عن علاقتها بالآخرين، تقول الكاتبة إنها لا تتعامل معهم من منطلق الدين، وضربت لنا الأمثلة "أنه لو كان ملحداً مثلاً أو مثلياً..."، مبيّنةً أنها لو تعاملت معهم من وجهة نظر الدين لانتقصتهم، في حين أنهم قد يكونون أفضل منها وبمليون مرة، ويا للعجب! أن يكون الملحد أو المثلي (الشاذ جنسياً) أفضل منكِ يا عزيزتي، وبمليون مرة؟ أي وجه تصطفين من الملحد الذي جحد الخالق وأنكر فضله عليه بإنكار وجوده؟ وماذا تنتظرين من شاذّ بدّل سنة الله وتعدى حدوده؟ هناك أخطاء لا بد من قراءتها بعين أكثر قدرة على التمحيص.
قضية المرأة
موضوع المرأة كان آخر العنقود في مقال الكاتبة، رغم أنه كان باعث الكتابة الأول؛ لكنها تاهت وهي تمهّد له الطريق لعلمها بحساسيته وأهميته أولاً، ولقناعتها بأن ما تقوله خارج عن قناعتها الفطرية ثانياً. وهذا برأيي ما دفعها لتناول موضوعها بتردد ومواربة، رغم أنها لا تحب الرقص حول أي موضوع تحب طرحه مهما كان شائكاً -كما تقول- لكنها فعلت، واقرؤوا معي وهي تقول: "ولذلك عزيزي القارئ عندما أتحدث عن المرأة، عن جسدها، لا أجعل من الدين أيضاً مرجعي، ليس الدين مرجعي، كل الأديان بغض النظر عن أي دين نتحدث عنه، تعاملت مع جسد المرأة على أنه شيء لا يخصها". ثم ما لبثت أن قالت: "لا أقحم الدين في الموضوع، لأني أعرف أنا الأخرى، أنه عندما يتعلق الأمر بهذا الشيء، ما نقوله شيء وما نفعله شيء آخر".
وأسألك بدوري: ما سر هذا التخبط؟ ولماذا لا تتخذين الدين مرجعاً؟ وأعني هنا الإسلام؛ الدين الذي أعطى المرأة ما لم ولن يعطيها فردٌ أو جماعة أو ديانة أو منظمة إياه، مهما تشدّق المتشدقون بحقوقها، ومهما تاجر بقضيتها المتاجرون، يبقى الإسلام هو القانون الربّاني والأوحد الذي احترم المرأة وكرّمها وساوى بينها وبين الرجل، إلا فيما فضّل الله بعضهم على بعض، لحكمة بالغة يعلمها الله.
اسمعي الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الجنة تحت أقدام الأمهات"، لماذا هذا التكريم؟ هل لأن لها جسداً تصرّفت فيه كيف شاءت؟ أم لأنها احترمت النظام السماوي وحملت رسالتها على خير وجه. جسد المرأة ملكها، لكن لكل شيء مقدار، ولكل ملك نظام وقانون، المرأة ليست ذلك الشيء الرخيص القابل للمزايدة والمناقصة، لأنها إن صلحت ارتقت المجتمعات، وإن فسدت سقطت الحضارات وانهارت القيم. أتريدين أن تكون بناتنا نسخة من بنات أوروبا وأمريكا لكي ترضين عن الدين الإسلامي وعنّا؟ لا والله ما هذه من شيم الإنسانية في شيء.
هناك أخطاء مورست وتمارس في التعامل مع المرأة في بعض الأحيان، ولا يقرّها ديننا ولا أعرافنا، لكنها ليست حجة كافية لبيع جسد المرأة في المزاد الحضاري. جسد المرأة حقها، لكنه تاج يزيّن جبين أمتنا، ووسام عزة وشرف يحوّط أعناق الجميع، جسدها حقها لكنه موضع احترامنا وإكبارنا، ولذلك نحيطه بعنايتنا البالغة لقدسيته، حتى لا يمسّه نجس بسوء، وحتى يفوز به من يفوز وفق المنهج الذي حدده الله تعالى. جسدها مقدس، وكرامتها وقدسيتها من عفتها وطهارتها، لا من تهالكها على إشباع رغبتها بأي وسيلة وبأي ثمن. هذا ليس مقبولاً، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وعلينا أن نرتقي بأنفسنا بتهذيبها والتسامي فوق الرغبة والغريزة، لاحظي أني أقول التسامي لا الإلغاء، يجب أن نسمو بأنفسنا عن الحيوانات.
ليس هناك ما تسمينه بالوصاية يا سيدة إلهام، ولكن هناك ضوابط وحدود لكل اتجاه، وهذه سنة إلهية بأن لكل رعية راعيا، والمرأة ما خُلقت لكي تكون ندّاً للرجل، بل لتكون: سكناً (زوجة)، أمّاً، فلذة كبد... وفي كل الأحوال هي مسؤولية الرجل مع احتفاظها بشخصيتها ومسؤوليتها، كل في حدود ما قُدّر له. أما أن نعدّ كل من نرتبط معهم في رباط معين كالعائل في البيت مثلاً أو المدير في العمل أو غير ذلك؛ أن نعدّ هذا الرباط وصاية، فهذا غير منطقي وغير مقبول (حتى علمانيّاً). أنتِ تعملين –مثلاً- هل أنت مرتبطة بقانون معين وإدارة محددة، أم أنك متحررة من كل وصاية؟ لا يعقل أن يسير هذا الكون الفسيح وفق عبثية البشر، ولا يمكن أن تستمر الحياة إذا عطّلت الشريعة والأنظمة والقوانين.
كما أن الحرية ليست مطلقة كما زعمتِ، ولو كانت مطلقة لمارس الجميع نزواتهم البشرية دون حياء أو خجل، ولتقاطعت الحرية مع مبادئ الإنسانية التي نطمح إلى تحقيقها والعيش تحت مظلتها. الحرية لها حدودها كأي قيمة في حياتنا، لها أسس ومعايير إذا تجاوزتها تحوّلت ضرباً من الفوضى، وصورة من الحيوانية.
قبل أن أختم أضع بين يديك هذه العبارة لتعيدي قراءتها "بل الإيمان حاجة ضرورية، تحتاجها الأغلبية الساحقة من البشرية وأنا من ضمنها...".
أستسمحك أستاذة إلهام، كما أستسمح القارئ الكريم إن زلّ قلمي أو قصّرت، فالكمال لله.
a_saba
رداً على مقالها "جسدها... حقها.. !".. إلهام مانع.. بين العلمانية والإيمان!
2008-10-26