الفوضى والجهل يتنمران على حقائق الجغرافيا والتاريخ في مدينة عدن. وإذا استمر الحال على عهده ولم تتدارك الجهات المسؤولة في الدولة الخطر الذي يتهدد "عين اليمن"، فإن عدن لن تعود تلك المدينة الساحرة التي "تحتضن البحر والجبلـ"، حسب التعريف الشائع لها.
الأسوار تتعالى في كل مكان، حارمة البحر من الحضن الدافئ للأم الرؤوم، فيما البلدوزرات ومعدات الشق والحفر تنهش بأنيابها الحادة جسد المدينة، واصلة إلى قلاعها وتحصيناتها.
خلال الأسابيع الماضية تزايدت الأخطار على روح المدينة وشخصيتها، وحُمَّى السباق على البقع والمتنفسات تكاد، باسم الاستثمار الأعمى والتنمية الشوهاء، أن تصهر ملامح المدينة ومعالمها، بما في ذلك جبل حديد نفسه.
مطلع هذا الأسبوع كانت عدن قد دُفعت إلى حافة الخطر. هذه ليست صيغة مبالغة. فحسب الباحثة اسمهان العلس الأمينة العامة للجمعية اليمنية للتاريخ والآثار فرع عدن، فإن البلدوزرات بلغت الآن الحافة الشرقية للدروب السبعة في جبل حديد، وهذه عبارة عن تحصينات ضد الكوارث الطبيعية، وبخاصة الزلازل، وتضم المنطقة التي باتت عُرضة للتدمير استحكامات عسكرية ودفاعية تعود لعهود مختلفة من تاريخ المدينة.
عدة جمعيات ومنظمات أهلية ونقابية متخصصة تطالب بوقف تدمير معالم المدينة وطمس ملامحها، لكن السلطة المحلية بالمحافظة تصم أذنيها عن مناشدات هذه المنظمات، راكنة إلى السبات العميق الذي تنعم به الهيئات الرسمية والحكومية المتخصصة، وبخاصة الجهات الرقابية الرسمية بمختلف تخصصاتها: إدارية وهندسية وبيئية وتشريعية.
"ندعو منذ ثلاثة أعوام إلى إعلان مدينة عدن القديمة محمية تاريخية. لكن دعوتنا للأسف الشديد لا تجد قبولا"، قالت اسمهان العلس لـ"النداء".
وأضافت: "منذ 2005 ونحن نطالب بإخضاع أية مشاريع لإعادة تأهيل المواقع التاريخية لدراسة المختصين في الآثار والتاريخ والجيولوجيا والبيئة، لكن السلطة المحلية في المحافظة لم تستجب لنا". وتابعت: "برامج التأهيل للمواقع التاريخية تعمل في غياب الهيئات المختصة، والدراسات العلمية ذات الصلة تُقدم من أطراف غير مختصة، وربما من شركات أجنبية". لافتة إلى أن بعض مشاريع إعادة التأهيل ممولة من البنك الدولي. ومعلوم أن المشاريع الممولة من البنك الدولي ملزمة بتقديم دراسات عن الأثر البيئي لهذه المشاريع. لكن مصدراً متخصصاً في الجيولوجيا أفاد "النداء" بأن دراسات الأثر البيئي باتت مجرد جواز مرور للعبث بجيولوجية المدينة، إذ غالبا ما يتم «سلقها» من جهات غير متخصصة لغرض استكمال ملفات الاستثمار من الناحية الشكلية.
المصدر حذر أيضا من مخاطر مشاريع سياحية شُرع في تنفيذها في غير منطقة في محافظة عدن. وحذر بشكل خاص من مشروع منتجع سياحي سمحت السلطات بإنشائه في هضبة عدن، ودُشِّن العمل به قبل أسابيع.
"هضبة عدن يجب ألاَّ تستخدم لغير الأغراض الطبيعية"، شدد المصدر بلغة قاطعة، مشيرا إلى محاذير وظيفية لم تلتفت إليها السلطات المحلية، وبخاصة مجلس تخطيط المدينة الذي لا يفسح مكانا للمنظمات غير الحكومية ذات الصلة في اجتماعاته المخصصة لبحث قضايا تقع في صميم اختصاصات هذه المنظمات.
تحتوي هضبة عدن على ثروة تاريخية وبيئية لا تقدر بثمن. فإلى السدود التاريخية والدروب القديمة والقلاع والحصون, المندثرة منها وتلك التي ما تزال شامخة حتى الآن، فإنها تمتاز بالتنوع البيئي، والنباتات النادرة، كنبتة "عدنيوم" adenium، التي تكاد لا توجد إلا في عدن، فضلا عن نبتة أخرى يقول المتخصصون إنها النبتة الفريدة التي لا توجد في أي مكان آخر في العالم.
المشروع السياحي الذي بدئ العمل به مؤخرا، يتضمن مشروعا سكنيا يستوعب 150 ألف نسمة، حسب ما نشرته تقارير إعلامية قبل عدة أشهر. وكان المشروع قوبل بالرفض من محافظ عدن السابق يحيى الشعيبي، كما من هيئات ولجان معنية أخرى، بعضها رسمي.لكن ذلك لم يمنع من تدشينه باسم إعادة تأهيل المدينة.
طبق المصدر الجيولوجي، فإن المنتجع السياحي لا يهدد البيئة ولا يدمر تاريخية المدينة المنغرسة في هضبتها فحسب، وإنما أيضا يعرِّض سكان المدينة لما يمكن وصفه بـ"الخطر الوجودي"، ذلك أن المشروع يعطل الوظائف الطبيعية للهضبة، مدمرا حوافها ومقوضا منحدراتها، معرضا بذلك سكان المدينة لأخطار الطبيعة، كالفيضانات والزلازل.
الجمعية اليمنية للتاريخ والآثار – فرع عدن تنشط حاليا ضمن تحالف مدني يضم منظمات بيئية ونقابية وجيولوجية وتاريخية. وأصدر التحالف بيانا قبل ثلاثة أسابيع يطالب بالوقف الفوري لمشاريع إعادة التأهيل وبخاصة مشروع المنتجع السياحي ومشروع إعادة تأهيل صيرة ومشروع إعادة تأهيل الصهاريج. البيان طالب, أيضا, بتحديد المعالم الأثرية والتاريخية في المدينة، ووضع «المحارم» لها، وعدم المساس بها تحت أية ذريعة قبل الدراسة المتخصصة والمتأنية لطبيعتها ووظائفها، لضمان الحفاظ على وظائفها الأصلية.
اسمهان العلس التي تدرس التاريخ الحديث في جامعة عدن، انتقدت إقصاء المنظمات غير الحكومية ذات الصلة من مجلس تخطيط المدينة، معتبرة ذلك أمراَ "غير مبرر وغير قانوني". ولخصت الوضع الماثل في المدينة في ست كلمات: "فوضى وجهل وتجاهل واستمرار في التجاهلـ"، ضاربة مثلا بجزيرة صيرة.
"جزيرة صيرة بوابة تاريخية لعدن وليست مجرد صخرة"، زفرت الباحثة العدنية. وزادت: "صيرة ليست القلعة فحسب، بل هي منظومة طبيعية وتاريخية وآثارية كان من الواجب عدم المساس بها".
هذه الحقيقة لم يستوعبها المعنيون الذين قدر لهم أن يمسكوا بمصير المدينة في ساعة شؤم.
بدلا من سوق السمك الرابض في محاذاة الجزيرة – تتابع العلس- كان يفترض أن تكون هناك أشغال ثقافية مثل (إقامة) متحف للتنوع السمكي والبيئي والجيولوجي، وأنشطة أخرى ذات علاقة بتاريخية صيرة.
عدن عند حافة الخطر، وسلطتها المحلية تنطلق من رؤية تنموية ترتكز على الاسمنت، الاسمنت فقط. وهذا صار بمثابة لطخات تشوه وجه المدينة الآسرة. وإلى الاسمنت الذي يتبجح في صيرة وجبل حديد، مثيرا اشمئزاز الناظرين، يستمر ردم شواطئ المدينة، وغرس الخوازيق في جوفها، كما في النفق الذي بدأت معدات الحفر بتدشينه بالقرب من الباب التاريخي لعدن.
السلطة المحلية في عدن مطالبة بإسكات معدات الحفر، والتوقف قليلا للإصغاء لصوت المتخصصين، ولسوف تدرك أن هؤلاء لا يعادون الاستثمار على إطلاقه، وإنما الاستثمار على حساب التاريخ... وعلى حساب المستقبل أيضا.
Hide Mail
جمعيات أهلية تناشد الحكومة والمجتمع الدولي إعلان المدينة محمية تاريخية.. استثمار بوعي اسمنتي يدفع عدن الى حافة الخطر الوجودي
2008-02-28