ليست المرة الأولى التي يدلي فيها مسؤول في السفارة الأمريكية بصنعاء بحديث صحافي أثناء وجود رئيس الجمهورية في زيارة لأمريكا. وحديث السيد خوري نائب السفير الأمريكي الذي نشرته "الأيام" (1/5/2007) جاء أكثر من حديث صحافي وأقل قليلاً من توجيهات وإرشادات وأوامر صريحة. كما أنه كان نقداً صريحاً وضمنياً لسياسة الدولة في شأن من أخطر شؤونها ألا وهو الحرب.
في البداية يقول ضمنا أن التهديد يأتي من الفساد أكثر مما يأتي من الحرب. ويضيف أن تخويف الناس بضياع النظام الجمهوري دعاية غير ذكية. "يجب أن تكون حكومة حرب ولكن حكومة حرب على الفساد، بمعنى أن الحرب على الفساد يجب أن ترقى إذا لزم الأمر إلى أعلى من مستوى الحرب على الإرهابـ". هذا كلام يقوله نائب المندوب السامي الأمريكي وهو صاحب المصلحة الأولى والأخيرة في الحرب على الإرهاب التي أصبحت علة وجود بالنسبة لبلاده. وكلامه، وهو بهذه الصفات، يصعب دحضه. ولعله يريد به تبيان موقف بلاده من اللعب الذي يقوم به النظام في دائرة التحالف مع أمريكا في الحرب على الإرهاب.
وبمنطق براغماتي أصيل في التفكير الأمريكي يرى ضرورة الحل، أو "هناك دائماً حلول أخرى"، مادام الطرفان لم يستطيعا "أن يصلا إلى حل سياسي أو حل عسكري"، وهذا في سياق نقد صريح للتصريح العسكري لرئيس الوزراء المدني، ونحن نعرف أن الرئيس هو الذي تكلم. وسبب هذه الحكمة السياسية في كلامه (خوري) التجربة الكارثية التي تواجهها بلاده في حرب إعادة استعمار العراق التي فاقت جرائمها ما اقترفته في حروبها العدوانية السابقة. ومن هنا فإن استمرار الحرب الظالمة في صعدة مقلقة، "نحن قلقون من أن استمرار هذه الحرب قد يؤدي إلى فوضى ليس فقط في صعدة ولكن في مناطق أخرى من اليمن". واليمنيون الذين قالوا هذا الكلام نفسه اتهموا بتهم شتى أخفها الخيانة. ولكن وطنية المتحدث الرسمي باسم الدولة الحامية لا ترقى إليها الشبهات، لا سيما وهو حريص على أن لا تتدخل جهات أخرى شريرة في شؤون اليمن الداخلية. وهو هنا ينظر إلى نفسه واحداً من أهل الدار. وهذا يذكرني بدعوة حارّة وجهها قبل سنة الرئيس قرضاي يناشد فيها أمريكا أن تمنع الدول الأخرى من التدخل في الشأن الأفغاني.
ونحن ندور في الفلك نفسه، وإن على لسان الراعي الأمريكي، "فاستمرار الحرب وفوضاها إذا ما انتشرا فقد تستغلهما فئات خارجية؛ ولذلك ننصح أن تستنفد كل الإجراءات والوساطات والحلول السياسية". وهذا كلام صريح: إن الجهود لم تستنفد في جميع المستويات المذكورة. ورغم ورود كلمة "فئات" بدلاً من "دولـ" في السياق، إلا أن هذا يعني أن الخارج لا يقف وراء الحرب. وهذا يناقض قائمة المتهمين الذين أوردهم الكلام الرسمي وشبه الرسمي، بدءاً بإيران وليبيا، وأخيراً السعودية، التي تريد إضعاف اليمن.
ويذكرني كلامه عن السلم وأنه نهاية كل حرب إنما هو السلم بمقال "المسيح الجديد الذي يتكلم الإنكليزية" الذي كان سبب محاكمة مشهورة للفقيد عبدالله باذيب في عدن. وحتى إن كان قد تحدث نائب السفير بالعربية فإن الفحوى قائمة.
وختام التصريحات له فوح أطيب من المسك: " بعد أن تسكت المدافع يجب أن يكون هناك حل يضمن لكل سكان هذه المناطق حقوقهم، وأن يضمن للدولة سلطتها وهيبتها بأن تستطيع أن تتحرك وتفرض النظام في كل أصقاع اليمن".
إن "يجبـ"، و"سكان هذه المناطق"، لا تترك مجالاً للشك في أن الأمر الأخلاقي المطلق هو الذي يتحدث بلسان الدبلوماسي أكثر من الدبلوماسية، وكأن "التعاون الأمني" الذي ورد في إجابة عن سؤال سابق في الحديث نفسه ليس بين همومه.
ولا يقف عند هذا الحد بل: "في هذا المجال يجب أن يكون هناك معاملة متساوية لكل المواطنين ("يحبـ"! الرجل مع مبدأ الواجب وكأنه فيلسوف كانطي جديد) ويلقي اللوم على النظام لأنه لم يستمع إلى النصيحة الأمريكية الخيرة. "لو كان الشمال منطقة مفتوحة لكل الدول المانحة لاستطاع الشق الشمالي من اليمن أن يحصل على برامج الدعم والتنمية مثل سائر اليمن، وهذا ما نصحنا به بعد نهاية الفترة الأخيرة، في 2005، من القتال في الشمالـ". وهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق. ويصرِّح بأن الحكومة الجديدة "بدأت بتنفيذ القوانين القديمة وأخذت [إتخذت- أ. س] إجراءات جديدة بالنسبة للسلاح".
وعندما يقول: "من الصعب أن تطلب من المواطنين في الشمال أن لا يحملوا السلاح عندما يحمل السلاح المواطنون في كل أنحاء البلاد الأخرى". والنقد لا يقتصر على المسألة من حيث المبدأ، بل يذكرنا بحُجة الطرف الآخر في صعدة عندما ذكر هذه الحجة نفسها عن الحديث عن السلاح في صعدة وبقية البلاد. ويزيد الأمر وضوحاً عندما يذكر أن "المتمرد يحصل على أسلحة من الأسواق المحلية" شأنه في ذلك شأن "الجماعات الإرهابية في البلاد وخارج البلاد، تحصل على أسلحتها من الأسواق المحلية اليمنية". وهذا قول صحيح ويرد في سياق ينقض نقضاً قاطعاً وصريحاً كل ما يقوله الكلام الرسمي بهذا الشأن، ويفسِّر جانباً من أسباب استمرار الحرب ودور اليمن في الإقليم. ولكن ما لم يقله الدبلوماسي الأمريكي أو السلطة، هو أن تجارة السلاح في اليمن، السعيد بحكامه، قضية متواشجة بكل مستويات السلطة/ السلطات. إنها جزء أساسي من الاقتصاد السياسي للنظام الجمهوري القبيلي القائم منذ العام 1962، وأن إخراج الجسم الجنوبي من الحياة السياسية والعسكرية للبلاد والاستيلاء على أسلحته رسَّخ هذا الملمح في بنيان الدولة؛ فتجارة السلاح تدر أرباحاً أكثر من تهريب المشروبات الكحولية والأدوية. وداخل هذا المثلث يتكامل الاقتصاد السياسي للنظام لأن هذا المثلث هو صورة الاستيلاء على الثروات الجاهزة دون الإسهام في إنتاجها. ومن السهولة بمكان دعم هذه السياسة بالاستيلاء على الأراضي والشواطئ ومياه البحر، فتكتمل دائرة النهب في "بلد منهوب حتى النخاع" (حبيب السروري).
يقول الراعي الأمريكي لفرسان الحرب: "السلم خير". ونحن مع السلام، ولأسباب بعيدة عن حكمة وخيال "الأمريكي القبيح"، ورغم ذلك نرحب بالسلم لأنه خير. إن حجج أنصار الحرب قد استنفدت، ويجب أن تقف الحرب حتى لا تستنفد البلاد إرهاقاً وقتلاً ودماً وتعذيباً وزرعاً لألغام الأعماق في بلد لم يكتمل اندماجه الوطني.
وكما قلنا في أول حديث عن الحرب، هناك دائماً وسائل أخرى غير الحرب لحل الخلافات والنزاعات، وأن الحرب أبشع فشل للأفراد والجماعات والدول، وأنها دائماً انتصار للغريزة والـ"أنا" البيولوجية على الـ"أنا" الثقافية الإنسانية.
"أوقفوا الحربـ"، "السلم خير"... وكل حديث عن رفض الخروج على الدولة ورفض حرب الدولة على الخارجين، كما في بيانات المشترك، ليس منزلة بين المنزلتين. إنه وقوف في اللامكان. وقد تزحزح الدبلوماسي الأمريكي من منطقة اللامكان "لينصح" بسلوك طريق السلام. إن الوقوف في المنطقة الرمادية ليس حكمة بل إضاعة لوقت يقتل الجميع.
6/5/2007
نائب المندوب السامي الأمريكي يطلق حمامة السلام
2007-05-09