صنعاء 19C امطار خفيفة

قرابين البيجر

حين جرى تسليع العالم، ومنه منطقتنا العربية، باتت أسواقنا مع أسواق الجنوب، حقل تجارب لموبقات مخرجات تقنيات العولمة تحت مسميات ومغريات شتى، ومعها وبها تأكدت أبدية السيطرة الرأسمالية، بخاصة المتوحشة، على الطلب الداخلي لأسواق دول الجنوب كافة بدءًا من الهمبرجر وغيرها، وتحت أشكال وأسماء ومسميات شتى، وتزايد شراهة الإقبال على هكذا منتجات تحت يافطات وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. كتل بشرية تقتتي وتستهلك وتصبح مجرد تابع لسلاسل العرض، عرض شركات لها أغراضها وأهدافها، وتختزن ذاكرتها كتلًا بشرية مستهلكة فقط تتابع بشراهة أيضًا ما استجد من موديلات هواتف، سيارات، موديلات برفانات روائحها تثير الرغبات المكبوتة.

 
هكذا جرت عملية غسيل للأذهان للأسواق ومستهلكيها، ودولنا لم تصل قط لجادة الرشد، كانت ولاتزال تهرع لاقتناء آخر الموديلات، وما العيب وفوائض المال كتلة تتكدس، وتبدو بلداننا كبلدان من حيث الصورة فقط تخوض معارك اللحاق بتقنيات العلم وتطوير وسائل الإنتاج، لنجد أنفسنا نهاية المطاف مانزال نستورد من الإبرة إلى الصاروخ... وسلاسل الإمداد جاهزة لتلبية أي طلبات نودها من أفكار وسلع بدءًا من الهمبرجر لشيطان التواصل، المسمى البيجر، وغيرهما، لنكتشف نهاية المطاف أننا مخترقون من قمة الرأس لأخمص القدم. وكما أخضعتنا العولمة -عفوًا الأمركة- لزخات مدافع الفقاعات بأنواعها، ودوشنة تلاعب بنك الاحتياطي الأمريكي بأسعار الفائدة للدولار، وكنا له من التابعين الطائعين، نحن نخسر وهم يكسبون، كنا مانزال مجرد حثالة كتلة مستوردين نشحت مجيء الاستثمارات، نقدم لهم الإغراءات على كفوف الراحة، ونغدق لهم السيل المنهمر من التسهيلات، ولا شيء يتغير، عجز في الموازين وديون تتراكم.
 
نكتشف ساعات الموت كم نحن أغبياء رهائن لدى سلاسل الإنتاج والإمداد الدولية التي يسيطر عليها تجار يهوذا وتابعه اليانكي، والعكس صحيح، ومافيات وعصابات وحكومات ورساميل تدير لعبة الأمم القاتلة، مرة تحت تهديد السلاح النووي، ومرة تحت فذلكة البرمجيات، حتى أوصلونا لمحطة الذكاء الاصطناعي، وشغلونا طيلة ثلاثة عقود وما قبلها بصراع الحسن والحسين، وموقف الشرع الأصح حول الخطوة الأولى للحمام أتكون شرعية بالقدم اليمنى أولًا أم بالقدم اليسرى! وغيرها من سنن تدمير بنية المجتمعات بقوامها الوطني، لتظل رهينة وحبيسة الصراعات الطائفية المذهبية المناطقية، ومن غذى ومول هكذا صراع يتطاير فرحًا مرحًا، بل يغمض عينيه ويتغاضى كما صاحب قم مؤخرًا.
 
وهكذا عشش داعش وصحبته كأنه مرسل من أرحم الراحمين، ليعشش في بلداننا، بعد أن طهر أرض أفغانستان -كما أوحوا له- من رجس لينين وخبرته... حتى انكشف الحال، وتركت أمريكا أفغانستان وهي منشئة هذه الفبركة من أول داعش لآخر البيجر القاتل الذي انفجر بآلاف من مناضلي حزب الله في لبنان الجريح، كانوا مناضلين من الذين أتقنوا كل شيء، ولم يتقنوا قراءة ما وراء قصة البيجر اللعين.
 
فالحرب مع قوة كان استزراعها بالمنطقة ليس لعبة، وليس مجرد صدفة، إنما كان استكمالًا لمراحل توطين المشروع الرأسمالي الصهيوني الأوروبي الأمريكي، من حين تم زرعه مع تداعيات مؤتمر بازل، أواخر القرن الثامن عشر، عبر رب الفكرة هرتزل، من حينها والمشروع يغذى رأسماليًا بعوامل التفوق بمعناه النوعي، وبقوة المال والتقنية، وتلاها لاحقًا مخطط سلاسل الإمداد اللامنقطع، ونحن كعرب مسلمين مسيحيين رهيني المحبسين، ظللنا محلك سر، نقمع بعضنا بعضًا، لنقع فريسة لشروط سوق دولية لا ترحم، لها شروطها ومؤسساتها، وصرنا أعضاء لمنظمات دولية فرضًا كأعضاء مروجين لطروحاتها مع الأسف.
 
البيجر ليست مشكلته حين انفجر، وقضى على المئات من المناضلين بحزب الله. المشكلة تكمن ببساطة في أننا تكيفنا كي نكن مجرد مستوردين، مجرد مستهلكين تابعين، لقمة سائغة، أصبحنا بالونة يتقاذفها منتج هنا ومنتج هناك، مرة في تايوان، ومرة في غيرها، عبر ممول ووسيط من بلاد الجان، مجرد نستجلب تقنية متوارثة إنتاجًا ووراثة من أسواق يهوذا والكاوبوي الأمريكي، ونحن ظللنا ومانزال نلهث وراء جيمس بوند والبرشا فريق الكرة الإسبانية، ومدى نجاحه وإخفاقه، تمامًا كما نلهث وراء رنالدو وملايين دولارات تدفع لجلبه لحلبة ملاعبنا العربية وبشروطه، ويا للعار!
الشهيد حسن نصر اله مات شهيدًا، قاد نضالًا.. أسس وكون تحالفًا وطنيًا داعمًا لسوريا، وليته حين تحالف مع التيار الوطني الحر قد وسع هذا التوجه لخلق إطار وفكرة لتحالف وطني أوسع يضم تيارات وطنية تتلاقى على رؤية وطنية توافقية كصمام أمان أمام أية مجابهات مع عدو تاريخي سرطاني التمدد، ويجنح لإثارة النعرات الطائفية، ويستفيد من تبعثرها وهيمنتها على المشهد السياسي الداخلي لأي بلد. كم كان ذلك سيعزز مكانة الحزب وقوته في تعاملاته مع طرف له حساباته الخاصة المغلفة بنسيج مذهبي طائفي.. المقصود إيران!
 
لم يهزم حزب الله، إنما هزمت الحالة العربية الراهنة التي تمر بأسوأ حالاتها، التي يتغذى منها العدو الصهيوني انتصاراته.
إيران مجرد عرضحالجي بأسواق السياسية الدولية، يقضم، ويتمدد في المناطق الرخوة، يقيم تحالفاته مع الأطراف التي يراهن عليها، ليكسب عبر من تولاهم برعايته، وهو يشعل ناره المقدسة، ويطفئها عند الاحتياج... هكذا قذارة السياسة مصالح فقط! والذي يدرك متى يسحب يديه من تحت النيران، يكسب على حساب من لم يعمل حسابًا ليوم الحساب!
حان الوقت للبنان ولحزب الله وكل القوى الوطنية لجرد الحساب وطنيًا، تعزز قوة الجبهات الداخلية وطنيًا داخل هذا البلد وسواه من بلاد الأزمات الداخلية المماثلة، وذلك لا شك يشمل بداية الخروج من سوق الاحتياج لوسيلة تواصل البيجر التي يمتلك عنوانها وتقنيتها ووسائل ووسائط تسويقها التي تم استزراع أذرع طويلة لها بالمنطقة، ويحاولون بشتى الصور فرض تأثيرهم، إلى جانب ما تحاوله دولة الكيان من تمرير ألاعيب التطبيع مرة، ومرة عبر تسويق فكرة الإبراهيمية الجديدة تواصلًا مع الفكرة الأسبق التي تم زرعها والترويج لها مرة تحت مسمى الشرق الأوسع ومرة الأوسط... ومرة الأوسخ.. ليتعادل هذا المسمى مع تسمية النظام العالمي الحالي بحالته الأوسخ!
رحلت يا سيد حسن، وتركت الكثير الكثير من الأسئلة، من سيجيب عليها، هنا مقدمات المعارك القادمة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً