صنعاء 19C امطار خفيفة

سبتمبر.. وتحرير العقل اليمني

بعد مضي اثنين وستين عامًا من قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، تفرض تساؤلات عديدة نفسها على كل متأمل للواقع اليمني الراهن، وهو يرى بأم عينيه وجوه التباين والاختلاف بين ما طمحت إليه الثورة، وما هو ماثل للعيان من تدهور على كافة الأصعدة. ومن هذه التساؤلات: هل حققت الثورة اليمنية أهدافها؟ هل قضت على الجهل والفقر والمرض كما وعدت؟ والسؤال الأهم: هل نجحت الثورة في تحرير العقلية اليمنية من قيود الجهل التي أحكم الإمام وثاقها؟

لا يختلف اليمنيون في الإجابة عن هذه التساؤلات بالنفي؛ وذلك لأنها ثورة لم تكتمل بعد، فبالرغم من البداية الملهمة التي ابتدأت بها، والتي ألهبت حماسة اليمنيين وفجرت القرائح الشعرية لدى الشعراء إعجابًا بها؛ غرد البردوني برائعته واصفًا هذا اليوم العظيم، يوم السادس والعشرين من سبتمبر، الذي أضاء دنياه في قصيدة يملؤها الضياء:

 

أفقنا على فجر يوم صبي

فيا ضحوات المنى أطربي

أتدرين يا شمس ماذا جرى؟

سلبنا الدجى فجرنا المختبي

 

ولكن هذه الثورة العظيمة واجهتها الكثير من المعوقات الداخلية والخارجية التي أدت إلى انحرافها عن المسار المرتجى.

من المعلوم أن ثورة شمال اليمن تختلف عن ثورة جنوبه، بل وعن بقية الثورات في الوطن العربي الذي شهد احتلالًا أجنبيًا هدفه السيطرة على موارد وطن وثرواته؛ فتكون وعي جماهيري بضرورة مقاومته بكل الوسائل؛ لاستعادة الحرية والحفاظ على المقدرات الوطنية. 

أما ثورة شمال اليمن، فهي ثورة انتشال شعب من بين الوحل والظلام الذي ألقي فيه وحيدًا زمنًا طويلًا، ليرى النور لأول مرة. فخرج محملًا بآفات الظلام التي تملؤه من رأسه حتى أخمص قدميه؛ هذه الآفات متمثلة في أعراف قبلية جائرة، وأفكار شعبية انهزامية مصحوبة بذل وخوف وخنوع، وخرافات وأوهام دينية مغلوطة رسخها الإمام؛ ليتسنى له إحكام القبضة على الشعب. منها أنه حاكم عليهم بأمر من الله، وأن مظاهرته خروج على منهج الله. هذه القدسية الزائفة التي أحاط بها نفسه أسرت العقلية اليمنية أكثر من مائة عام، وما زالت آثارها باقية إلى يومنا هذا.

وبجانب هذه الآفات التي تملأ العقل اليمني، يتربص به، من ناحية أخرى، أعداء الثورة من الداخل والخارج؛ لتعيده إلى الوحل من جديد. فتكمن صعوبة هذه الثورة إذن في تعدد أعدائها؛ فالعدو الأول لليمني كامنٌ في عقله الذي ما زال يختزن كثيرًا من آفات الماضي التعيس، وعليه التخلص منها. ثم أعداؤه من أبناء وطنه الذين استهووا الظلام واستعذبوا العيش مع آفاته؛ فجعلوا من أنفسهم عبيدًا ووكلاء لبقايا الإمامة، ووكلاء لأسيادهم في الخارج، جاهلين عواقب ما يقترفونه بحق الوطن. فأذاقوا إخوتهم الأحرار مرارة العيش، وفقد اليمن بسببهم خيرة أبنائه، وعلى رأسهم الشهيد أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، والشهيد علي عبد المغني، وغيرهما من خيرة أبناء اليمن الذين بذلوا أرواحهم ليرى اليمن النور.

قام الضباط الأحرار بعمل عظيم بتفجير شرارة الثورة والإطاحة بالحكم الكهنوتي، وفتحت المدارس والمعاهد وشُيدت جامعة صنعاء، وتخرج منها نخبة من أبناء اليمن المتطلعين إلى المعرفة، ومثلوا اللبنات الأساسية في تعليم الأجيال اللاحقة. ولكن هذا الإنجاز العظيم "فعل الثورة" توقف؛ لاختطاف الثورة والانحراف بها عن مسارها الصحيح. توقفت الفعل الثوري، وضعفت الأفكار الثورية الجادة والهادفة إلى إحداث تغيير حقيقي في العقلية اليمنية، حين وقعت اليمن تحت حكم استبداد القبيلة لعقود من الزمن. فأُفرغت المفاهيم من محتواها، وأصبحت مفردات تردد دون أن تحدث التغيير المرجو منها، وارتفعت الشعارات، وتوالت الاحتفالات والأغاني الحماسية، ولكن غاب المشروع الثقافي الحقيقي الذي يستهدف بناء الإنسان وتنمية عقله تنمية صحيحة. فبناء الإنسان عقلاً وروحًا خير مكسب تكتسبه أية سلطة. وغاب المشروع الفكري الذي يخترق العقلية المتحجرة، ويبث فيها الأفكار السامية والقيم النبيلة، قيم الحرية والعدالة والمساواة، التي تعيد للإنسان اليمني كرامته المهدورة.

وغابت المشاريع الثقافية التي تستهدف تمدين المجتمع القبلي المسلح الذي لا يعترف إلا بقانون القبيلة. فلا سلطة أمام القبيلة والشيخ. فأصبح المتعلم والجاهل يتباهون بحمل السلاح، وظهر في أوساط اليمنيين أستاذ جامعي يتباكى على عهد الإمامة، ويتمنى عودتها من جديد. وجُرّدت أقلام للنيل من شرف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وهي التي علمتهم كيف يمسكون بالقلم بدلًا عن السلاح. غاب مشروع التمدين الذي يجعل الناس سواسية أمام سلطة القانون.

الثورة اليوم تحتاج أبناءها الأحرار لاستردادها، وتنتظر جهودهم الفردية لتغيير أنفسهم وفق القيم الإنسانية السامية. وتنتظر تكاتف الجهود الرسمية والشعبية لاستعادتها والسير بها ومعها حتى الوصول إلى الغاية المنشودة، وهي تحرير العقل اليمني.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً